مرحباً أيها الأمير

صورة من البادية

الجميع ضحكوا على الصورة، بالغوا بالضحك، يغدو الضحك أحيانا شتيمة من نوع آخر. هكذا بدا الأمر يومها. كان ذلك في ورشة أدبية ثرية، ضمت عدة أدباء من كلا الجنسين، ومن عدة دول مختلفة.
كان المفترض بكل كاتب أن يقدم مشروع نصه القادم من خلال 3000 كلمة.
يومها حضرت كل ذاكرتي الصحراوية بخيوطها القوية والمكهربة.
لا مناص، ذاكرتنا تأكلنا، تماما مثل ذلك الكائن الخرافي الذي تحدث عنه ماريو بارغاس يوسا في كتابه الجميل: «رسالة إلى روائي شاب»، حيث كائن أسطوري اسمه «غول الأرض» يقتات على نفسه ليحيا، يأكل من جسده ليعيش.
منذ ذلك اليوم، تأكدتُ أن العنكبوت الذي في ذهني لا يتوقف عن غزل خيوطه من لعاب الذاكرة، وأني من أولئك الذين يرفضون طي ملابس الماضي.
كان – ربما ـــ من الطبيعي أن يضحكوا، فالصورة التي كنتُ قد وضعتُها غلافاً لمشروعي، كانت لفتى بدوي حافي القدمين، أشعث الشعر، بدا واضحا أنه لم يستحم منذ وقت. لكنه «أمير»!؟
تظنون أن الأمراء يكونون كذلك، فقط بسبب أناقتهم المفرطة؟! يومها تسرع زملائي بالضحك! لم ينتبهوا إلى القامة، العينين، النظرة ؟! وتلك الوقفة الهادئة، المطمئنة، الواثقة، تنقل لك معنى «الكبرياء» بلا أي خطأ، مع تحدّ عفوي أصيل، ووديّ وصريح.
الفتى الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره بدا واضحا انه يرتدي لباسا فاخرا لكنه قديم ومهلل غير معتنى به، كيف لطفل أن يتمنطق بتاريخ كامل ويختزله برمزين من معدنين مختلفين، فولاذ وفضة، خنجر دمشقي ومسدس كرداغ روسي؟!
طفل لا يبدو أنه يتجاوز السادسة، يزنر خصره بسلاحين ينتميان لجيلين مختلفين. من يومها ضحك زملائي دون أن يفكروا مثلا، كيف لخاصرة طفل أن تحمل ثقلين فظيعين؟!
حافي القدمين كان ذلك الأمير، لطالما رأيت صورا لملوك وأباطرة وقياصرة، لا لأمير وطفل وحافي القدمين أشعث الشعر بهذه الطريقة الفجة؟
يكاد يمضغ الناظر إليه، كان بمثابة «زوس» بدوي صغير يومض وفي عينيه بريق مدية؟! يكاد يخطف الناظر إليه!
ألم يقل يوما ألبير كامو: «تفكير الإنسان قبل أي شيء، حنينه»؟ ولأن الأدب قوامه الشغف والجنون والهوس، تكفيني صورة صغيرة بالأبيض والأسود لأمير بدوي صغير حافي القدمين، لأكتب. من قال إننا نكتب بسبب المنطق مثلا؟!
لا أخفي أني لم أؤجل تصوري عن جد هذا الامير الصغير العتيق الذي «يقال» إنه فَتَنَ امبراطورة بيزنطة «تيودورا زوجة جوستنيان» ابنة مدينة منبج المتاخمة لبادية الشمبل السورية من جهة الشمال.
هذه الصورة كانت كافية ليبلغني يقينا ساحقا حول حقيقة أنه لا يمكنني أن أهجر أرضاً وِجِدَت لأشتاق إليها.
وضعتُ الصورة أمامي، علقتها على جداري، وأمسكت قلمي مع كل الورق الابيض الذي بين يدي وقلت:
مرحباً بك الأمير «طراد» عندي لك بضع أوراق بيضاء.
لا تنظر إلي هكذا.
لأنني معلقة دائما فوق مشجب الماضي، أهتز لأقل نسمة منه.
مرحباً بك، لو تعرف كم أنت نادر بصورتك هذه: جسد حقيقي، صريح، لا سموكينغ ولا ربطة عنق ولا حذاء ماركة فرساتشي.
الصورة ملتقطة بعدسة مستشرق أجنبي في مطلع القرن العشرين للأمير طراد عبد الابراهيم. أمير أكبر وأهم قبيلة بتاريخ سوريا. القبيلة التي حكمها آل البوريشة قروناً عديدة، وأنشأ أمراؤها دولة على ضفاف الفرات في القرن السادس عشر كان أميرها مستقلا بحيث لم يقبل بالسيطرة العثمانية ولمدة أربعمئة عام وسلاطين آل عثمان يمنحون ألقابا شتى لأمراء الموالي مثل «بيك، وباشا» على أمل تليين عريكتهم واغتيال لقب الأمير الذي حمله قبل قرون طويلة من قيام الدولة العثمانية، وهذا يُفسر أن يحمل جد الأمير «طراد»، «الأمير أحمد بك الموالي» حمل ذات يوم، لقبين بآن واحد.
نعم، هذا الفتى أمير، وصورته كافية لتحريك مارد الكتابة، لكن كتابة ماذا، من أين أبدأ؟ هل أبدأ من تلك الحكاية الغريبة التي جمعته بجدّي ذات يوم؟!
أينما ذهبت، أشمّ الغياب، وأتوسد ماضيين: الماضي البعيد الذي يمنح مستقبلي شرعية وحدي أراها، وآخر قريب جداً مفعم بصوت «فيروز» الذي يملأ صباحاتي في مقاهي مدينة بيروت.
من يجرّ السراب من ذيله؟!.. إلى أين تمضي؟!.. تحمل «أناي» و «أناهم» أولئك: «البدو»، إلى زمن مراياه تحيلنا رملاً كان..
أعرف تماما أني أحن إلى وطن لم يعد موجوداً على الأقل كما هو في الذاكرة..
ديرتي «ديرة الشمبل»، تلك البادية التي تتوسط الخريطة السورية لم تعد وطني المُلهم، فقط تضاريس مقفرة تسودها كتائب تحترف القتل وتنتمي لجهات مختلفة متوزعة في كل بقاع الأرض.
حتى بندقية عمّي «الفرنساوية» التي يعود تاريخ صُنعها لعام 1912 لم يعد بإمكاني إشهارها بوجه أحد، فقد كانت ضمن أثاث مزرعتنا التي سُلبت ونُهبت ثم دُمرت ووُضع لها تصوير دراماتيكي على «اليوتيوب» لحطامها تحت مسمى خلّبي يشير إلى انتماء الجهة التي اقتحمتها؟!
كم أحتاجها بندقية عمّي العتيقة بينما غدوت أعيش على «خريطة كـــل من عليـــها يرفعـــون شعار: أيــن تضــع رصاصـــتك تضـــع المستقبل».
حتما أن ذلك الطبيب السويسري الذي كان أول من استخدم كلمة «نوستالجيا» في عام 1688 لم يطلقها لأجلي أنا، بل استخدمها لتوصيف حالة مرض غريبة تصيب الجندي السويسري حالما يبتعد عن جبال سويسرا. لكن، ماذا أفعل وأنا أحسها «الذاكرة» تنظر إلي.. عبر لحظة عميقة متحركة، تهشمني ألف قطعة وقطعة. . تفتت حاضري سنابك خيول التذكر، خيول جامحة تواصل الركض على الرمال التي أحببتها دائما.
(السفير)

السابق
بحث متقدم للخلافات التقنية في مفاوضات النووي الإيراني
التالي
كيري: المفاوضات مع ايران لا تزال تتطلب مزيداً من الجهد