«تفاهم» التسع سنوات: ورقة البنود العشرة.. ساحة الحوار

«الحوار الوطني هو السبيل الوحيد لإيجاد الحلول اللازمة للأزمات التي يتخبّط فيها لبنان…». للتذكير هو البند الاول في ورقة التفاهم الموقّعة بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» في 6 شباط 2006. بعد تسع سنوات تماماً يشعر المتفاهمان على ورقة البنود العشرة ان الجميع اتى الى ملعبهما.

بدلا من الورقة، اوراق باتت تلزم أسبوعياً «حزب الله» و«تيار المستقبل» بتفاهمات حول زواريب طريق الجديدة والشياح وصيدا، أهم بكثير من جلسات الحوار الفضفاضة على مدى سنوات في مجلس النواب وقصر بعبدا، ما دامت تحاكي كبرى الازمات: الاحتقانات المذهبية. وورقة مسيحية ثنائية قريبة جعلت من المستحيل واقعاً: وثيقة تفاهم بين ميشال عون وسمير جعجع!
عدوى التفاهم، الذي لم يكن مقبولاً ولا «مبلوعاً» ولا مفهوماً قبل تسع سنوات، انتقلت الى «أصل المشكلة». «الرؤيويون» كانوا على حق. اليوم تحتفل الرابية والضاحية بالذكرى على طاولة يُقصّ عليها قالب التقارب ونزع «عدّة الشغل» المذهبية بين «حزب الله» و«تيار المستقبل».
أكثر من ذلك، في يوم التلاقي الاستثنائي في مار مخايل، لم يكن الإرهاب التكفيري في بال أحد. ثمّة من يردّد ان الوثيقة بحاجة في هذا السياق الى تعديل ينسجم مع زلزال التطرّف والتشدّد الذي ضرب المنطقة واخترق الحدود اللبنانية.
لكن جوهر هذه الوثيقة بأبعادها المناقضة لـ «تكفير» الآخر بالسياسة، بدا برأي كثيرين، مفصّلا على قياس المرحلة الحالية طالما انه، وباعتراف الطرفين، يؤمّن جزءاً من مقوّمات المناعة الوطنية والتوازن الداخلي في مواجهة الارهاب. وها هم «الممانعون» قد اقتنعوا أخيراً، فلحقوا بنا!
في المقلبين، الأصفر والبرتقالي، تصفيق لتلاقي الاضداد بخلاف كل من يروّج لمعادلة «تفاهم إسلامي على حساب آخر مسيحي ـــ شيعي». في مقلب الممتعضين من طول عمر «ورقة التفاهم» ثمّة من سيتذكر حكماً كلام الثقة الذي تفوّه به يوماً فارس سعيد «وثيقة مار مخايل ولدت.. ودفنت في مار مخايل»!.
في ذكرى مرور العام الاول على توقيع الوثيقة الثنائية، كانت المرة الاولى والأخيرة التي يصدر فيها العماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله بياناً مشتركاً أتى بمثابة تتويج للقطوع المصيري الذي مرّ به التفاهم: حرب تموز. تأكيد «على النموذج الوطني في التلاقي الطوعي بين جماعات سياسية متنوعة» وعلى «صلابة الخيار».
في ذكرى العامين طلّة إعلامية مشتركة غير مسبوقة على شاشة المحطة البرتقالية، بإدارة الزميل جان عزيز. قال «السيد» عن «الجنرال» إنه «شخصية صادقة. مشكلته أنه وطني وطني وطني». وقال عون عن نصرالله «أقدّر فيه القدرة والشجاعة والقيادة».
مرّت سبع سنوات أخرى بدت فيها الورقة عاصية على اكثر من مطبّ كاد يحوّلها الى مخطوطة أرشيفية في جارور الشامتين، وإن تسلّل الفتور والتوتر أكثر من مرة الى غرف أهل «التفاهم».
في الإنجاز الأول للوثيقة ما تجاوز توقعات عون ونصرالله شخصياً في المدى الذي يمكن ان يذهب اليه جمهورهما في تشرّب خميرة هذا التلاقي، تحديداً الجمهور العوني.
القاموس البرتقالي الذي استُخدم في معاينة اعتداء القنيطرة ثم في ردّ شبعا كاف للتدليل على مدى انغماس الرابية في التزامها الإستراتيجي مع الحزب. سبق ذلك توقيعها على بياض، وان بتردّد بداية، على خيار «حزب الله» في نقل معركة الوجود الى داخل الاراضي السورية، وقبل ذلك استيعاب زلزال حرب تموز وأحداث 7 أيار.
العونيون باتوا اكثر خبرة في المحاضرة اليوم عن إستراتيجية المقاومة و«الصراع مع العدو الاسرئيلي». قائدهم ذهب أبعد من ذلك في تكريس نظرية التكامل الوجودي مع «حزب الله»، غير آبه بكل من عايره بكون «تياره» صار فرعاً لـ «حزب الله» على الساحة المسيحية!
لم تعد الرابية بحاجة الى هذا النوع من الامتحانات «الوطنية». باختصار هي أمّنت غطاءً لسلاح «حزب الله» عندما وُضع ذلك السلاح على طاولة النقاش. بالمقابل، سقط «حزب الله» في ردّ الجميل لحليفه «التاريخي» عند اول مفترق رئاسي عام 2008، حين سحب ملعقة «الفخامة» من فمّ «جنرال المقاومة». وكان عليه انتظار ستّ سنوات ليفعل ما يفعله اليوم من رفع المتاريس بوجه من يفاوضه على خيار رئاسي آخر طالما حليفه لا يزال مرشّحاً لرئاسة الجمهورية. في أروقة الحزب الداخلية من يردّد «يستحيل ان نرتكب هذا الخطأ مرتين».
وبين هذين المحورين، تجاوزت «وثيقة مار مخايل» أكثر من لغم. عند كل قطوع كان يسمع الكلام الكبير في كواليس الطرفين. لكن القرار على مستوى الرأس كان أكثر صلابة من «مغريات» الفراق.
أبعد من شبح الحرب، تبيّن بالعين المجرّدة انه حين يتحرّر ميشال عون من عبء تحالفه مع الضاحية ليذهب باتجاه تحالف ممكن مع السعودية عبر سعد الحريري، او حين يتحرّر «حزب الله» من حصرية الورقة المكتوبة مع «الجنرال» ليذهب باتجاه رسم خارطة طريق لتفاهمات الضرورة مع «تيار المستقبل» (واستطراداً كسر الحواجز مع الراعي السعودي)، فإن هامش «الاجتهاد» لدى الطرفين لم يكن ليؤثّر على مناعة تحالف تبيّن لاحقاً ان حتى مناهضيه توقفوا عن رجمه… ثمّ صاروا يتلحّفون بـ «ادبياته».
لكن في مقابل الكيمياء التي لم تجفّ يوماً بين «الجنرال» و»السيد» والوعد الصادق المتبادل بعدم جعل «6 شباط» تاريخاً من الماضي بل تأسيساً لحلف يفترض ان يشمل آخرين، فإن عدّة مطبّات كادت تخرّب ما لم تخرّبه حرب تموز أو القرار المتفرّد لـ «حزب الله» بمواجهة التنظيمات الارهابية على ارض سوريا. ستكون قمّة المفارقات ان تستنزف أزمة مياومي كهرباء لبنان، ومسرحية التمديد لمجلس النواب، والسير في خيار التمديد لقائد الجيش، والتعيينات، والنفط… الوقت الأكبر من يوميات قياديين في الحزب والتيار.
في خطاب تموز العام 2012 أعاد السيد نصرالله التذكير بموقف ميشال عون الأخلاقي والإنساني من حرب تموز. لم يشر من قريب ولا من بعيد الى ما بدأ يتراكم من مآخذ متبادلة حول الأداء في كل ما يتعلق بأمور السلطة والحكم والملفات الحيوية والإصلاح وخبايا المؤامرات في مجلس الوزراء ومجلس النواب… في ذلك جزء من ادبيات الحزب. في المقابل كان الصراخ العوني يُسمع عند كل محطة اعتراضا او نقمة. العلاقة المضطربة مع «حليف الحليف»، الرئيس بري، كانت العامل الأبرز في تسخين الجبهات مع «حزب الله».
في حصيلة تسعة أعوام من التفاهم المكتوب، يردّد الفريقان في كواليسهما كليشيه التحصين والتطوير. تحصين «وثيقة 6 شباط» من كل ما يمكن ان يأتي عليها من رياح قد تشلّع أساساتها، وتطويرها لتصبح أكثر ملاءمة مع خلاصات التجربة، وأهمّها تناقض الأولويات بين الطرفين.
المحتفون بالوثيقة يختصرون مسيرة التفاهم بسؤال واحد «ماذا كان يمكن ان يكون الوضع عليه لو لم يكن هناك 6 شباط؟». البراغماتيون يقيسونها من زاوية مختلفة تماما. الواقعية مطلوبة من الجانبين، وأقلّه الاعتراف بأن التفاهم لم يتحوّل يوماً الى حلف سياسي ثابت.
اما في ميزان الربح والخسارة، فثّمة من يعاير ميشال عون بخسارات كثيرة امام الربح الاكبر لـ «حزب الله»: منح الغطاء المسيحي للسلاح. يبدأ شريط الخسارات برئاسة الجمهورية ولا ينتهي بقانون الانتخاب ومعركة «المصير» في إدارة ملف النفط…

(السفير)

 

السابق
الأردن يفرج عن الشيخ أبو محمد المقدسي
التالي
جاسوس في قصر جنبلاط لمدة اربع سنوات!