أربع سنوات على اندلاع أولى شرارات الثورات العربية : من الامل الى المجهول

أربع سنوات مرّت على اندلاع أولى شرارات الثورة العربية، والنتيجة، حتى الآن، تفوق أكثر توقعاتها الأولى تشاؤماً. أكبر ضحاياها ما كان يُعرف بالدول، أو الأوطان العربية نفسها. حلّت على ترابها «الجهادية» الاسلامية، فكونت «دولتها»، على قسط واسع من العراق وسوريا، ووقعت ليبيا في نزاع عسكري بين أطراف منها وبين ممثلي عسكرها «الرسمي». وتخوض جهادية أخرى معركة عنيفة ومعقدة، رابحة حتى الآن، في اليمن، بقيادة الحوثيين، «أنصار الله»، وهم فرع من الأصولية الشيعية، ضد «القاعدة» و»الحراك الجنوبي». على حدود دول أخرى، تستنزف الجهادية الإسلامية السنية القدرات العسكرية لكل من مصر وتونس والسعودية والأردن ولبنان. تتفاوت درجات الاستنزاف، بين طفيفة ومنتظمة ومقيمة، ولكن محصلتها «واعدة»: في أفضل الحالات اشتباكات حدودية تتبعها اجراءات استثنائية، تتوازى مع الحرب على الإرهاب بقيادة ائتلاف دولي؛ أما أسوأ الحالات، فلا جرأة لنا على رسم معالمها…

سبق، أو ترافق، مع هذه المظاهر الأولى لتأكل نظام الدولة العربية في قلبها أو على حدودها، تبدل واقع الحدود الوطنية: فتحت هذه الحدود على مصراعيها أمام المعارك، أمام المقاتلين الداخلين اليها والخارجين منها، بحيث ان الأوطان باتت معان غائمة هائمة. ولكن هذا الإخلال بالحدود الوطنية لم يصحبه تنقل للمواطن غير المقاتل بين هذه الحدود: اللبناني لم يعد بوسعه عبورها إلى سوريا، ولا العراقي إلى سوريا، ولا الفلسطيني إلى سيناء ولا المصري إلى ليبيا ولا اليمني إلى السعودية الخ. لم يعد بوسعه التنقل كما كان يفعل قبل الثورات، بفيزا أم من دونها، إلا تهريبا او هربا أو نزوحاً؛ حدودٌ إما انها مغلقة، أو مشتعلة، أو مخترقة بجيوش محلية وغريبة، رسمية وغير رسمية. والأبرز من بين التحولات الحدودية هو بزوغ شكل الدولة الكردستانية الجديدة، التي أخذت معها في ما سبق جزءا من شمال العراق، وها هي تكوِّن الجزء السوري وربما مع الوقت الجزء التركي أيضا. أما التحول الحدودي الثاني، فكان دخول إيران رسميا الحدود الجنوبية لسوريا، وقيادتها الصراع مع اسرائيل بواسطة «حزب الله»، وفي غياب تام لأي قرار، علني على الأقل، في هذه الهضبة الاستراتيجية للقوات النظامية السورية كما للقوات التي تقاتلها.

على أطراف العالم العربي، بدلت الثورات من مواقع وأدوار وتصورات الدولتين الاقليميتين الكبريين: تركيا وإيران، وعقّدت تصورات الدولة الثالثة، أي اسرائيل. إيران استفادت من الثورات كما استفادت من سقوط صدام حسين، بأن وسعت نطاقها، أو «مجالها الحيوي»، نحو الدول الاكثر اهتزازاً، بدءاً بالعراق (عمق اربعين كلم) ثم اليمن ولبنان، وقطاع غزة؛ وقد تكون الجولان جائزتها الكبرى، لأنها تضعها على تماس مضبوط مع اسرائيل، وبقدرات صاروخية «هائلة» و»مزْلزلة»، يحملها على اكتافه «حزب الله»، وكيلها في بلاد الشام. فيما تركيا تخلّت عن سياستها «صفر مشاكل» مع الجيران، وابتعدت عن اوروبا، وركبت العظمة العثمانية رأسها، وصارت هي الأخرى بصدد اختراع مجالها الجوي، أو بالأحرى مجالها الحيوي مع سوريا؛ وهي مصرة الآن، بعد فشلها «الإخواني» المريع مع سقوط المصري محمد مرسي، على متابعة الأسلمة التي باشرتها، وبوتائر لا تبقي مكانا للشك في إغفالها للجهادية العربية.

أما في الداخل العربي، بين الناس، فان حياتهم انقلبت رأساً على عقب. ليس فقط لأن الويلات والمجازر والتهجير والتدمير والتوحش والبطالة، وكل ما يمكن ان يتصوره الانسان من شرور… قد أصابها؛ وكان أفصح تعبير عنها ذيوع القتل والهدر والاستباحة في قلبها، فضلا عن الصلب والسبي والخطف والسرقة الخ. والمجتمعات العربية ابتلت بعد الثورة بلوثة العصبية الطائفية والمذهبية: سنّي شيعي هو الاكثر شيوعا، يتبعه سني علوي زيدي شبكي كردي تركماني ومسيحي، خصوصا مسيحي. وفي البلدان التي لا أقليات مسلمة فيها، المسيحي هو المستهدف؛ المسيحي المصري هو الهدف المتصاعد للعصبية السنية المصرية، وفي ليبيا، التي لا مسيحيين فيها، يخطف الاسلاميون الليبيون ويقتلون مسيحيين مصريين أتوا لبلادهم طلبا للقمة العيش. قوافل الموت والدمار، وشخصية النازح الجديد الموزع على بلاد الشام ومحيطها، كلها تدر على الوجدان الراهن صورا من البؤس والمأساة والتشرد والفقر والضياع. لكن أكثر من ذلك: الاهتراء بانتظار نهاية الحروب التي أشعلتها الثورات العربية. اهتراء لبنان، مثلا، ليس قضمه فحسب. تفريغ مؤسساته الحية، تعطيل دوراته الانتخابية، نسف كل التوازنات الدقيقة التي مشى عليها بحذر، بانتظار انجلاء التوازنات الجديدة التي سوف ترسيها كل هذه الحروب. اهتراء سوريا واليمن وليبيا أيضاً… ثم، في أهدأ الحالات، حيث شيء ما من الاستقرار، كما في تونس، مقايضة هذا الاستقرار بكل اهداف الثورة وإعادة الحزب القديم ووجوهه الى السلطة. أو كما في مصر، عودة العسكر الى الحكم، وتغييب شباب الثورة وسجنهم وقتلهم واخفاءهم بمعية الحرب على الإرهاب الإسلامي، وعفو عن جرائم النظام الذي اسقطته هذه الثورة الخ.

الخلاصة ان الثورات نقلتنا، وبسرعة هائلة، من الثورة الى الضياع. من الأمل العارم الذي أنهضته تلك الثورات، من التفاؤل المجنون الذي ايقظته، من تغزل العالم فينا، اندهاشه بسلمية ثوراتنا وحضاريتها واعتمادها على وسائل التواصل الحديثة، بشبابها البطل ونداوة فعالياتها والطاقات الجديدة التي ضختها على نطاق واسع بين كل الذين شاركوا فيها، بالأيام التي لن ينساها أصحاب الادوار فيها، كبيرة أم صغيرة كانت هذه الادوار…. من هذا كله، ثم ضربة سيف من التاريخ، ودخولنا في الفوضى والمجهول واليأس والموت والدمار، في نفق المجهول.

كيف تحول الأمل إلى مجهول؟ بأية حيلة من التاريخ؟ بطلقات أي قناص من قناصيه؟ الشامتون بهذه الثورات، الذي يرددون «ألم نقل لكم؟»، الذين يفرحون لأنه طلع ان الحق عندهم، هم الذين استشرسوا في مخاطبة الرؤساء ومناشدتهم وتبييض صفحتهم معهم… هؤلاء الرابحون الخاسرون، هل كان يجب الاستماع الى نذيرهم المشؤوم؟ أو إلى أولئك الأكثر تفلسفاً منهم، الذين تنبأوا بفشل الثورات، لأنها «من دون قائد ولا برنامج ولا حزب؟». أو ان المسألة تتخطى الإرادة والوعي؟ فيعود الأمر الى طبيعة الثورة نفسها، بصفتها حالة تشبه أعاصير الطبيعة أو زلازلها، قوة عمياء جارفة فوق الطاقة البشرية على القرار… هي التي تأخذ في طريقها الأمل وتحوله الى مجهول؟ أو، بمعنى آخر، هل كان مآل الثورة هذا طبيعيا، كان علينا توقعه؟ وبناء على أية معطيات؟ هل كانت قوة دفع الثورات ذاتية ام موضوعية؟ هل هناك من مسؤولية ما، يتحملها الفاعلون في هذه الثورات؟ مسؤولية حقيقية أقصد، وليس تناحرات شخصية أو نميمة أو تشهير أو تحريض؟ وهل يحق لنا معالجة قضية المسؤولية هذه عندما يكون فاعلوها غير ممتلكين لكامل أدوات حريتهم؟ أي انهم أحرار المناسبة، أحرار الطلب على الحرية، وليس أكثر من ذلك؟

فالسؤال القديم الجديد: كيف يمكنك الحصول على الحرية عندما لا تكون حرا؟ ما هو تصورك للحرية عندما لا تكون حرا؟ وهل الحرية قوة للعقل؟ أم للواقع؟ أم تكون سراباً؟ غنيمة الأقوياء، وغريمة المعوزين الضعفاء؟ أم انها مثل السلام، هدنة قصيرة، إذا ما قيست بالتاريخ الممتد؟

أو السؤال الأقدم: هل تكون الثورة امتحاناً للماضي، يسهل عليه تجاوزه؟ لحظة من الصراع غير المتكافئ بين الحاضر وهذا الماضي؟

السابق
بالفيديو أحمد حلمي يجهش بالبكاء مباشرة على الهواء
التالي
نواف الموسوي:ما قبل عملية المزارع وخطاب نصرالله ليس كما بعدهما