الرفيقة سامية، ابنة الأشرفية التي أصبحت مناضلة «عضوية»

في وقت من الأوقات، وقبل ان يكتمل عقد خطواتنا العمّالية الأولى، تقرر قيادة المنظمة، أو ربما «فرعها» العمالي، بأنه علينا أن ننفصل، نحن الرفيقات، في تحركاتنا العمالية، عن الرفاق؛ أن نقوم، نحن الرفيقات بكل الخطوات، من «إتصال» بالعمال والعاملات، وتوزيع مناشير «نضال العمال»، وتحريضهم وتوعيتهم ضد الاستغلال. مع ان هذا الفصل سوف يتسبب لنا بكثير من الاختلاط بالعمال، قبل العاملات، لكننا لا نسأل، أو ربما نسأل بخفر وتكون الإجابة غمْغمة، تقلّل من شأن السؤال، أصلاً؛ من قبيل ان الرفيقة الأنثى أكثر إقناعاً، أو أسهل إختلاطاً بالعمال، أعمق إحساساً بمعانتهم… لا نناقش القرار الجديد، لا أنا ولا الرفيقة سامية، ونحن الإثنتان معنيتان به، فيما الباقون من رفاق الحلقة منصرفون لمهام أخرى، عمالية ربما. هكذا، أتقرّب من سامية، وأعرف المزيد عن قصتها، المختلفة عن تلك التي روتها لنا في اجتماعنا الحزبي الاول.

والد سامية مهندس معماري لامع، ورث عن أبيه، المهندس هو الآخر، ثروة كبيرة، وعلاقات جيدة مع كل الأوساط ذات الشأن الهندسي. أسّس في مطلع شبابه شركة هندسية، برأس مال محترم، فازدهرت أعماله وتوسّعت حتى بلغت دولاً خليجية ناشئة، تبحث عمن يعمّر لها الصحراء. ليس والدها المشكلة، كما تقول سامية، إنما والدتها، الشخصية الفريدة في بيئة الأشرفية الفرنكوفونية. أصادفها مرة واحدة، عندما أحضر إلى منزل سامية لكي نناقش «إتصالاتنا»، ونستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية. إسمها غلوريا، ولا شيء في مظهرها يشي بأمومتها لسامية. عكسها تماماً: سامية قصيرة القامة، نحيفة كما يكون بعض المراهقين، سمراء، شعرها الأسود المالس تقصّه حتى «الزيرو»، وعيونها الصغيرة الملتمعة وحدها تضيء عبوسها الدائم وخشونة حركتها. في سامية جاذبية خاصة، تنبع من دواخلها وتخرج من كل كيانها، كأن في هذه الدواخل آلة سرية تضخّ عليها ما أمكن من طاقة لتغطية ما تحتاج إليه لكي تجذب من حولها إليها. تستمّد جمالها من أعماق بواطنها؛ يكفي ان تبدأ بالكلام حتى تنسى صغر عينيها وقلّة جسدها، فتلوذ في صمت الإعجاب بروحها المتّقدة.

أما غلوريا فشأن آخر: حمراء الشعر، غزيره، بعيون جيكوندية واسعة تكاد تقترب من أذنيها، وشفاه مكتنزة لا تحتاج إلى ألوان، وقامة فاغرة، تتلوى بمشيتها مثل نمرة في قفص، ما يعرّض الناظر اليها، رجالاً ونساء، لضربات سحرها السريعة. في صوتها بحّة السجائر المتوالية، ونعاس الحبوب المنوِّمة؛ هي مستيقظة الآن، ولكنها مدعوة الى فراشها في أية لحظة من النهار؛ كأن طقم «الروب دي شابر» الفاخر، الحريري المطرّز، هو لباسها اليومي. ومهما قالت من كلام، أمرّه أو أحلاه، تبدو كأنها تدندن نغمة حنين ملتاعة. والأهم من كل ذلك، أنها لا تحسن لا العربية ولا الفرنسية. «أمك من أي بلد؟» أسأل سامية، إذ تنتادني نوبة حشرية فورية أمام غرابتها. وتكون إجابتها قصة طويلة أخرى، ترويها لي سامية على دفعات، وبتقطع يليق بها، هي التي لا تطيقها، تلك القصة، ترويها في محاولة للتخلص منها، وللمرة الألف ربما. إذن ها هي قصة غلوريا: إسم عائلتها بابيني، أصلها من الجنوب الإيطالي، هاجر والديها إلى القاهرة أيام الأزمة الإقتصادية الكبرى. وقتها، إنقسم الايطاليون الهاربون من الفقر إلى فئتين: الاقل فقراً، من شمالها، هاجر إلى أميركا، والأكثر فقراً، من جنوبها، هاجر إلى القاهرة. ولدت غلوريا ونشأت في حيّ شبرا القاهري الشعبي. جمالها اللافت دفعها، وهي في السابعة عشر من العمر، إلى الإشتراك في إنتخاب ملكة جمال مصر، وكانت كل المرشحات مثلها من بنات الجاليات الأجنبية، يونانيات وأرمنيات. من بين المنافسات لها، كانت هناك جارتها يولاندا، التي لم تكن أكثر منها جمالاً، إذ اتت الثانية من بعدها، أي وصيفة، فيما غلوريا فازت باللقب. ولكن يولاندا هذه انطلقت في عالم النجومية بعد الإنتخاب، وسافرت إلى فرنسا، وصارت المغنية العالمية داليدا؛ فيما غلوريا لم تنل إلا لقب «الملكة» الذي سيراودها كل بقية حياتها؛ كان هناك عرسان كثيرون حولها، إيطاليون ويونانيون، وحتى مصريون من كبار الصناعيين؛ ولكنها كانت تنظر إليهم بازدراء الملكة الباحثة عن ملك، لا أقل. ثم إلتقت ببيار، والد سامية، في حفل زفاف ابنة عمتها من أحد «الشوام» المصريين، وكان إبن خالة بيار؛ وقد حضر الى القاهرة لحضور زفافه. أغرم بها بيار وبجمالها، وسارع الى طلب يدها، وهي لم تتردّد، شعرت بأن ابواب النجومية سوف تفتح لها في بيروت، مدينة السهر والملاهي؛ المدينة العربية الوحيدة التي زارتها داليدا. وعدَها بيار بأنه بعد زواجهما واستقرارهما، سوف «يشجّعها» على تحقيق حلمها الرومنطيقي؛ وهي صدّقته، أرادت أن تصدّقه، فبدا لها بأن حلمها يقترب من الحقيقة. وكان هو يضحك عليها، معولا على سحر بيروت والاستقرار والرخاء والعائلة. أو، كما يفعل المحبون، راهن ربما على «تغييرها»، متكّلا على الحب الذي كان يغلي به. شيئا من أماني غلوريا لم يتحقّق؛ فبيار رجل محافظ، ومن بيئة محترمة، راقية، وأحلام غلوريا هلوسات مراهقة، سوف تخفت مع السنوات والإنجاب. تكره غلوريا كل ما يحصل لها، كل ما هي عليه: بيروت، عائلة زوجها، زوجها نفسه، تسافر الى القاهرة من وقت لآخر، أو تُحضر والدتها، ولكن مصر لم تعد كما كانت أيام شبابها. تعود منها هاربة من الفوضى والنفايات والفقر والعشوائيات، تتنهّد طويلا، ثم تقول ان بيروت ملاذها وجحيمها. لا تريد أن تتكلم الفرنسية ولا العربية. تفهمها جيدا، تنطقهما، عندما تضطر، بلهجة إيطالية مترددة، ممتنعة عن موسيقيتها؛ ولكنها، بتمسكها بلغتها الأم، تريد ان تقول انها، وحتى مماتها، محتجة على خديعة بيار، زوجها. تستمع الى أغاني داليدا طوال النهار، بحسرة متلذّذة، تسرقها من عاديات أيامها، التي تكرهها. وعندما تردّد أغانيها العاطفية، المفعمة بالحنين إلى أيام تمضي، بصوتها المجروح المبحوح، تفهم سامية ان أمها ضجرت من احتجاجها على خيبتها، فرفعت عقيرتها وأخرجت واحدة من نغمات داليدا… داليدا، تلك المرأة التي خرّبت حياتها، بعدما غرست في نفسها أحلام الشهرة والسفر والنجومية والجمال المتجدد. المنوِّم الذي تعتاد عليه غلوريا، والويسكي الذي يغرق فيه بيار، علاوة على سهراته اليومية المريبة، يفرضان نفسهما على سامية وأخيها جورج، كروتين يومي عليهما ان يتكيفا مع وتيرته، أو يخترعا لأنفسهما عوالم هي الأبعد عنه. في بيتهم، ما أن تتجاوز عتَبته، حتى تخيم عليك قصة حب دراماتيكية، أرغمت اشخاصاً على استمرار العيش معاً، برضاهما، وفاء لحبهما، أو خوفاً من المجهول. أما جورج، فعالمه أغرب على العائلة من عالم منظمة العمل الشيوعي؛ هو يختار أن يكون «لا منتمياً»، ويطور منذ مراهقته حباً ومعرفة لجغرافيا بلدان العالم كلها. يريد جورج فقط ان يسافر، أن يتعرف الى كل البلدان، مثل الرحالة الكبار. كلما يقرأ لواحد منهم في وصفه لرحلاته، لطبيعة البلدان، لجبالها وبحارها وانهارها، يقول لنفسه بأن مهمته هي الذهاب إلى البلدان نفسها وتسجيل ما يراه هو، ما ينبض به هو؛ فضول سياحي يجعله متأخرا في كل المواد إلا الأدب والجغرافيا، والقليل من التاريخ؛ صعلوق من نوع آخر، لا نضال عنده، ولا سلاح ولا عمال. فقط كوكب واسع شاسع هو محطّ الدنيا التي اخترعها لنفسه…

كل ما روته لنا سامية عن خلافها مع أبيها حول قراءتها لكتاب فريديريك إنجلس «أصل العائلة والملكية الفردية والدولة»، ومناقشتهما الحامية التي تلته، في إجتماعنا الحزبي الاول، لم يكن سوى إرتجالاً لبطولة كان عليها روايتها تحت إلحاح الرفاق؛ هذه هي الطريقة النضالية للتعرف على بعضهم، التي تليق بهم، بصفتهم أبطال المستقبل. هي قرأته، كتاب إنجلس، لا تنقصها القراءة أبداً. والذي وجهها نحو منظمة العمل الشيوعي هو أيضا كتاب، ولكنه كتاب آخر، ودوافع مختلفة. كتاب مثل الحب الأول؛ ليس ذهنيا، عقلياً، يعتمد البرهان والتحليل، إنما عاطفي، يدخل الى القلب، عبر قلب آخر، ويفرض على العقل مشيئته. يقع عليها كالصاعقة، كالحقيقة العارية، يجرفها نحو دنيا أخرى جديدة، أحاسيس جديدة، بعيدة عن رخاوة العيش الميسور الهنيء، ومرارة أمها الساحرة، مع النجومية، وخفّة أبيها الهارب بجروح قلبه نحو الويسكي والبنات.

ما هو الكتاب إذن؟ ليس من مكتبتها التي تحفل، قبل انتسابها الى المنظمة، بروايات كلاسيكيي إيطاليا وفرنسا. إنما من خارجها: هو كتاب «الأم» لماكسيم غوركي، «الكتاب السوسَة»، تقول سامية، واصفة أثره، بعدما تسرد لي حكايته بالتفصيل، وتقول انها، من وقتها، وهي تتماهى مع بطلاته. الآن فقط أفهم لماذا لم تشترك معنا سامية في التدريب العسكري، ونحن في عزّ مناصرتنا لحرب التحرير الشعبية. من قصة الرواية، ومسار أبطالها، وطبائع بطلاتها. ماذا في رواية سامية والكتاب وفي رواية «الأم»؟

السابق
سلام يوجه كلمة عند الثامنة مساء الى اللبنانيين
التالي
أحزاب العرقوب (2/2): الجماعة الإسلامية تتقدّم..فماذا عن ’المستقبل’؟