دولة لبنان ذاهبة إلى الفشل؟

لماذا هذا العجز المستمر في إدارة شؤون الدولة والناس في لبنان؟ ألرغبةٍ كامنة في الانهيار الشامل؟

ما كنّا لنطرح هذا السؤال لولا مجموعة وقائع بادية بوضوح أمام الناس، منها واحدة تقول إنّ اللبنانيين باتوا من دون “ثوابت وطنية جامعة” وفي طليعتها ما يلي:
– حماية الوحدة الوطنية والسلم الأهلي ونبذ الفتن الطائفية والمذهبية.
– التمسّك بالسيادة والحقّ في المقاومة.
– إحلال الحوار والمشاركة والتوافق محلّ القطيعة والتفرّد واستثناء الآخر في اتّخاذ القرارات العامة.
– التفكير في قضايا الناس المعيشية وتأمينها.
– احترام الدستور والنظام الديموقراطي البرلماني وتكوين السلطات بموجب الأحكام والأصول المرعية.
– رفض الوصايات والحمايات والتدخلات الخارجية وتقديم الولاء الوطني على أيّ ولاء آخر.
– وعي وحدة المصالح والمصير والهوية والإنتماء والتقيّد بموجباتها.
هذه الثوابت وما يلازمها من أفكار وأدبيات متى غابت عن ممارسات القوى السياسية المعنية بالشؤون الوطنية أكان بعضها في الحكم أم خارجه، تظهر أنّ اللبنانيين جماعات غير متّزنة وغير متوازنة وغير عاقلة، وتالياً غير قادرة على حكم نفسها بنفسها، كما يقتضي مفهوم السيادة من خلال ما يُعرف لدى الشعوب السيّدة والحرّة بدولة القانون. على العكس من ذلك يبدو أنّ الجماعات اللبنانية في ضوء التجربة العيانية تستمرئ عصا الرعاية والوصاية!
فضلاً عن ذلك نرى العلّة الأساس في نظام سياسي مقفل يعيد إنتاج نفسه وأهله بعد كلّ محنة، وهو يتغذّى من التوتّرات الدائمة في الداخل والخارج ولا يجد له سبيلاً إلى التطوير أو التغيير، فيستعيض عنهما بتسويات هشّة متتالية تتحكّم بها توازنات المصالح. إنّ قراءة لتوازنات المصالح الداخلية والخارجية منذ تشكّل الدولة اللبنانية حتى اليوم تنبئ بأنّ هذا النظام السياسي ذاهب إلى مزيد من التصادم بين أهله ولا حلّ جذرياً له بادياً في الأفق المنظور وغير المنظور. إنّ مقبولية هذا الإستنتاج تحدّدها معطيات الواقع الراهن بكلّ تفاصيله.
يتّسم الواقع الراهن بمعادلة لا استقرار ولا انهيار. وهي معادلة غير مضمونة. فلبنان متروك لقدره ولا إجراءات عملية تثبت أنّه موضع عناية إقليمية أو دولية على الرغم من ثقافة الإسترخاء الغبي أو المتواطئ السائدة والقائلة إنّ العبث بأمن لبنان خطّ أحمر وإنّ إسقاط الدولة اللبنانية بمؤسساتها الدستورية كافة أمر ممنوع. إنّ ثقافة الإسترخاء والتمتّع بمفرداتها المضلّلة (لا خوف على لبنان، لن تصل إليه الفتنة السنية-الشيعية، لا بيئة حاضنة للإرهاب وللتطرّف، المسيحيون فيه بألف خير، ما يحدث لمسيحيي سوريا والعراق بعيد عنهم، إسرائيل لن تعتدي علينا…) يشكّلان هروباً فاضحاً من المواجهة وتحمّل المسؤوليات في مرحلة هي الأدعى إليهما معاً.
إنّ اعتماد الإنتظار نهجاً في عدم الإقدام على المواجهة وتحمّل المسؤوليات هو تسليم مطلق بأنّ لبنان أصبح في واقع لا يملك المسؤولون عنه ولا شعبه القدرة على تغييره وليس ثمّة واحدة من جماعاته بقادرة على التحكّم بأموره، ما أبقاه في أزمة قرار.
“الحكومة – الرئيس” حتى الساعة لم تثبت صدقيّتها ومكنتها لإخراج لبنان من هذه الأزمة.
“المقامات الدينية” تقدّم خطاباً سياسياً غير مسموع لأنّها ليست له أصلاً، لم تعد مرجع الوطن في أزماته، لأنّها لم تعد في نظر الخارج صاحبة الرأي المرجّح.
المؤسسات الثقافية والإعلامية معظمها مستتبع وفقدت مسوّغات وجودها فلا موقف نقدياً لها ولا استنهاض لحركة شعبية إحتجاجية.. الكلّ غافل عمّا هو فيه وعمّا حوله أو مستمتع به أو مستفيد.
إلى متى هذا الإسترخاء الموصوف بالغباء أو العجز أو التواطؤ؟
أكلّ ما نحن فيه غير قابل للتغيير؟
أكلّنا ينتظر تبدّل الوضع في سوريا وفي العراق وفي فلسطين ليدخل كلّ منّا رؤيته الخاصّة للتغيير حيّز الإمكان؟ هذا رهان الخاسرين.
ما نحن فيه يستدعي نمطاً آخر من التفكير وتقدير الأمور. السير معاً في اتّجاه واحد هو المطلوب. فليقم بين اللبنانيين تعاون في المجالات الممكنة بدءاً بإعادة تكوين مؤسسات الدولة ولتأخذ الدولة طريقها إلى عقول اللبنانيين فهي معطى تاريخي اجتماعي حقوقي وثقافي وهي معيار الإنمياز الفردي والجماعي.
يبدو أنّ الدولة-المعيار ما زالت مفهوماً يكتنفه لبس في عقول الكثيرين. وهذه مسألة معروفة تاريخياً لدى المدارس الفوضوية أو “الأنارشية”.
في خضمّ الفوضى العارمة العاصفة بمعظم الدول العربية والآتية إليها من كلّ العناوين “الربيعية” و”الجهادية” حريّ بنا الإتّعاظ ولو لمرّة واحدة (على طريقة تعديل الدستور) لتبقى لنا دولة على خريطة منطقة بدأت معالم دولها بالزوال أو الإنزياح..
تفادي تفكّك الدولة أو تحلّلها لا يتمّ بانغلاق كلّ جماعة على ذاتها وبالتزاحم وراء مكاسب خاصّة. الإنغلاق والتزاحم أصابا الدولة بالشلل. كيف لهذه الدولة أن تبرأ وتحيا؟
بالتفاهم على وظيفتها، من هنا نبدأ.
ميشال شيحا يرى إلى لبنان مجموعة سوء تفاهمات متّفق عليها. وظيفة الدولة اللبنانية بهذا المعنى إدارة سوء التفاهم حماية للسلم الأهلي. وعندما يتعذّر على الدولة القيام بهذه الوظيفة تقع النزاعات الأهلية.
أوليست حالنا اليوم حال من فقدت دولتهم وظيفتها؟
هذه الوظيفة المخصوصة بالدولة اللبنانية كافية وحدها للحكم على واقع ما نحن فيه. وإذا توغّلنا في توصيف وظائف “الدولة الناجحة” يتبيّن لنا أنّ مآل الدولة اللبنانية هو “الفشل الحتمي” في تأدية تلك الوظائف:
– لا حكومة مركزية قويّة قادرة على بسط سيادتها التامة على كامل التراب الوطني.
– لا مؤسسات تعمل وفق آليات دستورية وقانونية سليمة. وهي مفرغة من أيّ معنى ديموقراطي. الدستور معلّق والقوانين لا تطبّق.
– لا وحدة حكم ولا خيارات وطنية واحدة لدى الحكومات المتتالية أقلّه في الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والثقافة.
– لا مكنة لدى الحكومات أو لا رغبة لديها (بحسب شومسكي) في حماية مواطنيها من العنف والعنف المضادّ. النزاعات الأهلية الدينية والإتنية تعجز الدولة من السيطرة عليها.
– لا دور فاعلاً في المنظّمات الإقليمية والدولية (هامشية العضوية والدور تستدعي الخضوع لشروط المساعدات الخارجية).
– لا اقتصاد قويّاً. من تبعاته ارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة والهجرة (الهجرات السكانية الواسعة وخصوصاً هجرة الأدمغة والكفاءات العلمية العالية) وتراجع معدّلات الاستثمار والتنمية البشرية والعجز عن تقديم الحدّ الأدنى من الخدمات العامة وتطوير البنى التحتية.
– لا إصلاح في الحكم وفي المؤسسات والإدارات العامة. يستشري الفساد وتغيب المحاسبة. (ثمّة مصطلح جديد للتعبير عن ظاهرة الفساد هو “اقتصاد الفساد” تيمّناً بمصطلح “اقتصاد المعرفة”).
– لا معالجات جذرية للأزمات الوطنية المتكرّرة والمتفاقمة.
– لا استطاعة ذاتية في صياغة التوافقات الوطنية ما يستدرج التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية وتالياً الاستتباع والإستقواء والتخادم.
جرّاء عملية حسابية تطبيقية دقيقة نستنتج أنّ الدولة اللبنانية هي في “حالة إنذار” أو “حالة تحذير” في تصنيف الدول الفاشلة بمعنى أنّ مآلها إلى الفشل حتمي ومساحة الإستدراك تتقلّص يوماً بعد آخر في منطقة باتت قاب قوسين من تطبيق نظرية الإستغناء عن دولها الفاشلة.

السابق
الجيش سحب 7 جثث لمسلحين من محيط عرسال
التالي
’داعش’ والأنظمة العربية: التماهي بين الديني والسياسي