مجدداً.. غزة ليست حماس

ليس مهماً استعادة مقاطع من الجمل والمواقف التي يطلقونها، فهي باتت مادة يتقاذفها المؤيدون والرافضون على فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي، لكن من المهم الاعتراف بأن هناك مزاجا عاما فظا ونافرا بات يتكرس كمساهم رئيس في صياغة الرأي العام تحت مسمى أنه إعلام.

لقد جاوز أداء بعض من يُفترض بأنهم من أهل الإعلام كل أعراف وتقاليد المهنة، وانحدر نحو درك بائس من التحريض، وبات الموقف والرأي الشخصي المنحاز هو القاعدة الإعلامية الذهبية التي يلجأ لها اللاهثون نحو نجومية رخيصة.

ما يلقى من مواقف وكلام يوقع المشاهد في حيرة حيال أداء مجموعة من الإعلاميين والإعلاميات على الشاشات، فهل يجدر بنا أن نصفق أم نضحك!! هل نغضب أم نذرف الدمع أسفا على الحال الذي وصلنا اليه.

نعم، يمكن أن تتفاوت انفعالاتنا وأن نجفل حين نشاهد تراقص حواجبهم وكيف تهتزّ أجسامهم لدى صرخة يطلقونها من هنا أو هتاف وتحريض عنصري من هناك. من يرغب في استعادة مسرحياتهم الهزلية تحت مسمى “وطنية” عليه بفضاءات “يوتيوب” خلدتهم لنا زملاء أبديون في مهنة الإعلام.

وللحقيقة يصعب أن لا تنتج اللحظة السياسية التي تعيشها مصر ومعها العالم العربي سوى مثل هذه الشريحة من المقدمين والمقدمات والكتبة الصحافيين الذين شرعوا يكرسون الفجاجة والشتم والسب لمجموعات كاملة من الشعوب أو الدول أو الجماعات ووسمها بأوصاف شيطانية وتحقيرية على نحو معمم وغارق في الشعبوية كما يجري حاليا. وهنا ليس لنا سوى أن نستذكر بكثير من الحنين الإعلامي الساخر باسم يوسف حين كان يمارس بحرفية دوره كبوصلة حقيقية لكشف مثل تلك الارتكابات وتعريتها قبل أن يُجبر على التوقف والانكفاء.

بالتأكيد ليست مصر وحدها من تعاني من هذه الآفة لكنها في بلاد النيل فاضت حتى باتت تصيبنا جميعا وتطال جمهورا واسعا لا ينحصر بالجمهور المصري. وهنا، لم يكن مفاجئا أن ينصب مؤخرا جام فظاظة هذه الشريحة من الإعلاميين والإعلاميات على الفلسطينيين وهم في لحظة استهداف حقيقية يتعرضون لها من قبل إسرائيل.

نعم، هناك أحوال كثيرة تبدلت في السنوات الثلاث الأخيرة واكتشفت المجتمعات العربية أن قضاياها الداخلية لها أولوية تتجاوز في أحيان كثيرة القضية الفلسطينية التي استخدمتها الأنظمة لتكون عنوانا وحيدا تضيع في ثناياه كل مشاكل مجتمعاتنا حتى انفجرت جميعها.

لكن، غزة ليست حماس.

هذه المعادلة سعى الرأي العام الغربي لتكريسها خلال حملته التضامنية مع غزة، ولكن في مصر وفي غيرها من دول العالم العربي والإسلامي هناك من سعى لاختصار غزة بحماس والحث على استمرار الاستهداف الإسرائيلي لها بذريعة أن في ذلك انتقاما من “شرور” هذا التنظيم الذي يجري خلط الحقائق بالمتخيل والأوهام لدى تقديمه في الإعلام.. ثم أن شيطنة حماس ينطوي بدوره على مبالغة لا تؤدي إلى تقويض نفوذ الحركة ولا تحمي الأطفال الفلسطينيين في القطاع.. نعم حماس أخطأت في غزة قبل أن تخطئ في مصر لكن اللحظة الراهنة تستدعي مراقبة إسرائيل، فهناك نحو ١٨٠٠ قتيلا معظمهم من المدنييين وكثير من بينهم أطفال ونساء. إنها الضحية المجردة من أي لبس أو أي اعتبار. والانحياز إلى غزة هو انحياز إلى الضحية..
سمعنا كلمات فظة على شاشات جديدة وشاهدنا وجوها ثأرية.

ليس هذا وقت محاسبة حماس على دورها في مصر، فمن المفترض أن يكون هناك قضاء مصري يجلي الصورة ويحاكم المنتهكين، أما أن يعاقب مليونا فلسطيني بجريرة أخطاء سلطة تحكمه فهذا تماما ما تفعله إسرائيل اليوم.

التضامن مع الضحية الفلسطينية هو تماما مثل التضامن مع الضحية السورية ومحاسبة من يستهدف مجتمعات في تحريضه أمر سبق أن شهدته مصر فهاهي مذيعة حرضت على المغرب فجرت محاسبتها وتوقيفها عن العمل.. فلماذا الحرص على عدم استهداف الشعب المغربي وهذا حق، بينما يجري التهاون مع شيطنة الفلسطينيين أو السوريين أو شعوب أخرى على نحو ما نرى ونسمع.

نعم هناك أصوات مصرية عديدة تنتقد تلك اللغة وترفض أن تُنسب لها لكن لم يكن لهذه المقاربة أن تتعمم لو لم تكن تلائم الخطاب الرسمي..ليست الشعوب والجماعات كتلا متراصة وما يجري اليوم هم إما شيطنة كاملة أو تقديس عام.

غزة ليست حماس والسوريون ليسوا بدواعش أو بآل الأسد والشيعة ليسوا النظام الإيراني والسنة ليسوا بقاعدة.

إنها ألف باء محو الأمية الإعلامية التي يبدو أننا جميعا نحتاج أن ننخرط فيها من جديد.

السابق
وزيرة دولة في بريطانيا تستقيل بسبب سياسات حكومتها تجاه غزة
التالي
هل يتسبب شح المياه بنقل الأمراض؟