مصر والحاجة إلى دولة ثالثة..

شهدت مصر في ثلاث سنوات ثورتين. يبدو الآن أنّها في حاجة إلى ثورة ثالثة تؤكّد أن الثورتين أسستا لوضع أفضل، حتى لا يتبيّن أنّ الثورتين كانتا خيبة كبيرة.

مرّت مصر بفترة حكم للإخوان المسلمين التي دامت سنة كاملة. تخلّص الشعب المصري من الإخوان ومن تخلّفهم، ولكن ليس من أجل العودة إلى حكم العسكر الذي إمتد طوال ستة عقود كانت فيها حسنات قليلة وسيئات لا تحصى. يبدو أن مصر تحتاج، في ضوء التجارب التي مرّت فيها منذ الإنقلاب العسكري في الثالث والعشرين من تمّوز ـ-يوليو ، إلى نظام جديد يساعد في إعادتها إلى خريطة المنطقة وإلى المصريين أنفسهم في الوقت ذاته.

لذلك، تبدو الإنتخابات الرئاسية في السادس والعشرين والسابع والعشرين من أيّار ـ مايو الجاري في غاية الأهميّة نظرا إلى أنّها ستكشف ما إذا كان في الإمكان إعادة الحياة إلى مصر، أم أن البلد العربي الأكبر والأهمّ سيغرق إلى النهاية في دوّامة مشاكله الداخلية.

سيتبيّن بعد الإنتخابات ما إذا كانت المشاكل المصرية المتراكمة قابلة للحلّ…أم أنّ زمن الحلول ولّى؟

في الواقع، لا بدّ من الإعتراف بأنّ مصر استطاعت في السنوات الأربع الأخيرة تجاوز أزمتين في غاية الخطورة. تنحّى الرئيس حسني مبارك بطريقة معقولة إلى حدّ كبير، ساهمت في تفادي حمّام دم كان يمكن أنّ يفجّر البلد ويدخله في متاهات لا نهاية لها على الطريقة السورية…

لا شكّ أنّ المؤسسة العسكرية لعبت دورا في ذلك بعدما شعرت بأنّ الإنفجار الشعبي صار واقعا وأن لا مفرّ من سدل الستار على عهد شاخ رئيسه وشاخت معه السياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي في آن.

أمّا الأزمة الثانية التي استطاعت مصر تجاوزها، فكانت المحاولة التي قام بها الإخوان المسلمون لوضع يدهم على البلد عن طريق رئيس إسمه محمّد مرسي كان أقرب إلى واجهة من أيّ شيء آخر. نزل المصريون إلى الشارع وكشفوا أنّ الشعب في هذا البلد لا يزال حيّا يرزق وأنّ، على الرغم من إنتشار الأمّية والفقر وسوء التعليم، بقي المصري يمتلك حسّا سياسيا مرهفا.

قام المصريون بثورة حقيقية أخرجت الإخوان من السلطة بعدما حاول هؤلاء وضع يدهم على مفاصل الدولة وبيع مصر بالجملة والمفرّق. أدرك المصريون باكرا أنّ الإخوان المسلمين لا يمتلكون أيّ مشروع سياسي أو إقتصادي. بالنسبة إليهم، كانت السياسة مختزلة بكلمة واحدة هي الإنتهازية التي سمحت لإيران بالتسلّل إلى الداخل المصري فيما ليس لدى محمّد مرسي، والذين يديرونه من خلف، سوى خيار التزلّف للأميركيين والسعي إلى إسترضائهم من جهة ونقل تجربة «حماس» في قطاع غزّة إلى مصر من جهة أخرى.

كشف المصريون في مناسبتين أنّ ليس في الإمكان الإستخفاف بهم أو إخضاعهم. من الواضح أنّ المرشّح عبد الفتّاح السيسي يدرك ذلك. يكمن الفارق بين السيسي ومنافسه حمدين صباحي في أنّ الأوّل يرفض بيع الأوهام، فيما رهان الثاني على الأوهام وعلى أنّ مصر في عهد جمال عبدالناصر كانت شيئا عظيما…في حين يقول الواقع غير ذلك. فناصر، كان من دون شكّ رجلا صاحب إطلالة وخطيبا مفوّها وغير مهتمّ بجمع ثروة، لا هو ولا أفراد عائلته ولا المحيطين به، لكنّه إرتكب أخطاء فظيعة لا مجال لتعدادها، بل تكفي الإشارة إلى نظامه الأمني المتخلّف وخطأ دخول حرب العام .

لا يزال العرب يعانون إلى اليوم من الآثار التي ترتبت على تلك الحرب التي مكّنت إسرائيل من وضع يدها على الضفّة الغربية التي باتت تعتبرها الآن، من وجهة نظرها، أرضا «متنازعا عليها» في حين لم يكن هناك في يوم من الأيّام إهتمام سوري باستعادة الجولان، بمقدار الإهتمام بالمتاجرة به وبالقضيّة الفلسطينية.

بفضل أنور السادات استعادت مصر سيناء وكلّ أراضيها المحتلة. كانت للسادات أخطاؤه، لكنّ ما لا بدّ من الإعتراف به أن حسني مبارك ورث السلام الذي صنعه سلفه بفضل جرأته أوّلا وأخيرا.

من حسن الحظ أن المشير السيسي، يؤكّد من خلال المقابلات التي ظهر فيها قبل أيّام أن عهده لن يكون إمتدادا لعهود ناصر والسادات ومبارك وأنّ هناك وعيا لديه لمدى خطورة الوضع الداخلي في مصر وطبيعة التحديات التي تواجه البلد على كلّ صعيد بدءا بالنموّ السكاني العشوائي الذي يأكل سلفا كلّ نموّ إقتصادي يتحقّق… وصولا إلى إنعدام الأمن.

كان رهان العرب الواعين على الشعب المصري رهانا في محلّه. ساعد العرب، على رأسهم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والكويت مصر بعد «ثورة الثلاثين من يونيو». جاء الآن دور مصر كي تساعد نفسها. الواضح أن ذلك لن يكون ممكنا من دون نظام جديد يؤكّد السيسي من خلاله أنّه ليس وريث حسني مبارك ولا أنور السادات ولا جمال عبد الناصر، ولا الثلاثة معا، بل وريث ثورة شعبية وضعت حدّا للحكم الذي أراد فرضه الإخوان.

صحيح أنّ هذه الثورة ما كانت لتتحقّق لولا الجيش المصري الذي دعم الملايين الذين نزلوا إلى الشارع قبل أحد عشر شهرا، لكنّ الصحيح أيضا أن ليس في الإمكان البقاء في أسر ما نتج عن الإنقلاب العسكري الذي سمّي «ثورة يوليو ».

هناك باختصار مصر جديدة، بمشاكل جديدة تواجه مخاطر جديدة، في حاجة إلى نظام جديد في كلّ شيء. ذلك هو التحدّى الأوّل أمام عبد الفتّاح السيسي الذي من حسناته أنّه لم يعد مواطنيه بأنّ كلّ شيء سيتغيّر بين ليلة وضحاها.

نعم، كان التخلص من الإخوان في مصر وطيّ صفحتهم من أهمّ ما شهدته المنطقة العربية في السنوات الأخيرة. كذلك، كان الدعم العربي لمصر دليلا على وجود وعي لأهمّية تفادي سقوطها وإنهيارها وتفكّكها. هناك وعي لأهمّية مصر في المحافظة على حدّ أدنى من التوازن الإقليمي.

ولكن في نهاية المطاف، لا خيارات كثيرة أمام أيّ رئيس مقبل لمصر غير الإعتراف بأنّ الماضي مضى وأن المنطقة كلّها، بما في ذلك مصر تغيّرت كلّيا وأن الحاجة إلى نظام جديد بكلّ معنى الكلمة. نظام قادر على مواجهة تحديات الداخل والخارج في آن.هل في إستطاعة المشير السيسي قيادة هذه الثورة الثالثة؟

السابق
ايرانيّة «لا تراعي العفّة» في كانّ
التالي
شمس الدين: الوصاية أجهضت ’المصالحة’ في الطائف