حمدين صباحي: الخيار الثالث

 

قبيل انتخابات الرئاسة المصرية التي تلت ثورة «25 يناير»، لم يكن حمدين صباحي مرشحاً للعب دور بارز في السباق المؤهل لـ«قصر الاتحادية». لم يكن أشد المتفائلين يتوقع حيازة المرشح اليساري «النيو- ناصري» على كم من الأصوات يجعل منه ممثلاً لكتلة تتجاوز الاصطفاف العقائدي، وتصيب صميم القضايا الاجتماعية التي أغفلها جُل المنافسين، والتي تهم قطاعاً عريضاً ممن يتطلعون إلى تجاوز ثنائية نظام مبارك وحركة «الإخوان المسلمين». قيل يومها إن ترشيح الرجل يشتت الأصوات لمصلحة مرشحيْ الثنائية الناظمة للحياة السياسية في البلاد، أحمد شفيق ومحمد مرسي، على حساب الإسلامي المعتدل عبد المنعم أبو الفتوح. ولعل التقدير هذا كان في مكانه. لكنه أغفل أن صباحي كان الأكثر تعبيراً عن «الخيار الثالث» الذي تجنب أبو الفتوح المجاهرة به، حيث عمل الأخير على طرح نفسه مرشحاً وسطاً يسعى للظفر بتقاطعات، كان أكثر ما يميزها تناقض المصالح والرؤى الايديولوجية. لذلك، فقد بدت محاولته جمع السلفيين إلى جانب أنصار الدولة المدنية والمنسحبين من «الإخوان» أقرب إلى الرهان على رص كتلة هجينة لا جوامع صلبة بين مكوناتها، ولا تطلعات موحدة لأركانها. ومع حلول صباحي ثالثاً بدلاً من أبو الفتوح بنحو خمسة ملايين صوت، وُجد من يقول إن الحصيلة الرقمية تلك إنما تعبّر عن صدفة تاريخية يصعب تكرارها، حيث إن أسهمه اتجهت صعوداً في الأسابيع الأخيرة السابقة للانتخابات نتيجة عوامل عدة، يتصل أساسها بسقف خطابه الذي داعب مشاعر كثير من المأخوذين بالموجة الثورية طرية العود، وأولئك الذين شدهم الحنين إلى شعارات الناصرية، فضلاً عن جملة المعولين على فرض خيار ثالث يتجاوز استقطاب «الفلول» و«الإخوان»، كما سبق وأسلفنا. غير أن «الصدفة التاريخية» تلك تلعب لمصلحة المرشح اليساري مجدداً، على أبواب الانتخابات الرئاسية المقبلة. إذ بدأت أوساط من النخب والنشطاء المؤثرين في الشارع تعلن دعمها لصباحي، بعدما كانت قد أعلنت مقاطعتها الانتخابات لقناعتها بعدم جدواها. وقد بنت هذه الأوساط قراءتها على وجوب إبراز «الخيار الثالث» مجدداً، حتى لا تغدو الانتخابات مبارزة حصرية بين ناخبي المرشح ذي الخلفية العسكرية من جهة، ومقاطعي «الإخوان المسلمين» من جهة أخرى، علماً أن القراءة تلك تأخذ في الاعتبار الاتساع الملحوظ في رقعة التأييد الشعبي لطروحات صباحي الانتخابية. وهي طروحات تتصل بقضايا العدالة الاجتماعية، وتمكين الاقتصاد الوطني بدلاً من الركون الكامل إلى عطاءات الخارج، وتثبيت مبدأ مدنية الدولة، وتوسيع هامش الحريات. وقد شُرحت هذه العناوين، فضلاً عن الخطوات المعبرة عنها، في البرنامج المعلن للمرشح وفي لقاءاته الإعلامية بشكل دقيق، فيما غابت تماماً عن برنامج «المرشح – الرئيس» عبد الفتاح السيسي، الذي استهزأ مدير حملته الانتخابية بفكرة البرنامج الانتخابي من أساسها، معتبراً إياها مضيعة للوقت لا أكثر. وما زاد من احتمالات تكرار «سيناريو» الانتخابات السابقة التي حصل فيها المرشح اليساري على كم من الأصوات فاق المتوقع، أن «تحالف دعم الشرعية» المؤيد لـ«الإخوان» اعتبره «أخطر من السيسي على التيار الإسلامي» ورأى أن «وصوله إلى الرئاسة سيزيد من أزمة التيار مع الدولة». وقد شجعت هذه العدائية تجاه صباحي قسماً كبيراً ممن يقفون خارج اصطفاف «الإخوان» والعسكر على حسم خيار الاقتراع بدلاً من المقاطعة. فـ«خطورة» فوزه (المستبعد أصلاً) لم تُفهم سوى من زاوية أنها تقدم سردية مختلفة عن تلك التي يسوقها «الإخوان». إذ إن سردية الجماعة تستند إلى فكرة أن ما حصل في الثلاثين من حزيران/يونيو الفائت، لا يعدو كونه «مؤامرة» تكاملت لإنجازها مؤسسات «الدولة العميقة»، وشبكات المصالح التي ورثت نظام مبارك، بعدما زج معظم دول الخليج بثقله في مسعى الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي. وهذه القراءة لها من الشواهد ما يدلل عليها، لكنها تغفل، بطبيعة الحال، وجود تيار واسع معترض على أداء الجماعة ويقع خارج التصنيف المذكور، وهو تيار ما كان لتغيير «الثلاثين من يونيو» أن يحصل لولاه. حمدين صباحي يمثل هذا التيار اليوم. إذ ثمة في الشارع المصري من يريد القول إن الحياة السياسية خرجت من قمقم الثنائية التي أبقت نظام مبارك حياً ثلاثين عاماً كاملة، معتمداً على «فزاعة» البديل «الإخواني» الراغب بابتلاع الدولة. صباحي يعبّر اليوم عن مشهد يتجاوزه وأنصاره المباشرين، ليشمل كثيراً من الواقفين خارج الضفتين التقليديتين للسياسة المصرية. وترشحه من الأهمية بمكان، إلى حد أنه يقابل، رمزياً، ثقل دعوة الشيخ يوسف القرضاوي إلى مقاطعة الانتخابات، فيما صعوده الشعبي الشبيه بذاك الذي حصل في الانتخابات السابقة، يفسر البلاغات التي بدأت تقدم ضده بتهمه «التطاول على القوات المسلحة». وتتيح مقارنة بسيطة بين أداء صباحي في المقابلات الإعلامية وأداء منافسه المشير عبد الفتاح السيسي مزيداً من الفهم لجهة لعب عامل الوقت لمصلحة الأول. فالتفاوت في الخطاب، شكلاً ومضموناً، يصب في مصلحة صباحي ويبوح بالكثير من الهشاشة خلف صورة الرجل العسكري التي بالغ الإعلام الممول من رجالات العهد السابق في تلميعها على مدى أشهر، وذلك بهدف احتواء ظاهرة المشير وإعادة تشكيل السلطة بما يتوافق مع طروحات الماضي، توازياً مع استكمال عملية التهشيم المعنوي لـ«ثورة 25 يناير». ولا ينفي هذا بأي حال من الأحوال أن نتيجة الانتخابات الرئاسية المصرية محسومة سلفاً، بين مرشحيْن يخوض أحدهما حملته بأدوات الدولة بعهديها السابق والراهن، وبإمكانات معظم دول الخليج فوق ذلك، فيما الآخر يعتمد أساساً على إمكانيات مناصريه. غير أن راهن الحال يؤكد وجود رغبة شعبية واسعة بتثبيت معادلة، تكاد تكون أبرز الإنجازات المتبقية لـ«ثورة يناير»، مفادها أن زمن اختزال البلاد بثنائية تفرغ الآخرين من المشهد، قد ولّى إلى غير رجعة.
السابق
’ميوت’… جديد ’تويتر’
التالي
سمعنا الجنرال.. وبانتظار السياسي