العيون على الراعي…’إحراج’ بيروت ثمّ القدس؟

بعد 19 يومًا تطأ قدما بطريرك الموارنة الأراضي المقدّسة إلا إذا عدل قبل ذاك التاريخ عن الزيارة لا لعدم قناعته بما سيفعله في مهد المسيح بل لإخراس “الوشوشات” في توقيتٍ يكتسب حساسيّته من كلّ العناصر التزامنية. حتى الساعة، لا يبدو أن قرار الاعتكاف مطروحٌ في كواليس بكركي، فالكاردينال صلّى لسيّدة لورد منذ أيام لتلهمه قبل سلوكه خطّ الرجعة الى لبنان بعد ساعات ليضع كلّ النقاط على الحروف.

بجواز سفر لبنانيٍّ يعود الكاردينال المشرقي الى لبنان، وبجواز سفر فاتيكانيٍّ يطمئنّ الى أبناء بيعته في القدس. هو نفسه ذاك الجواز الذي استخدمه المطران بولس صيّاح 16 عامًا سالكًا طريق الناقورة الى الداخل الفلسطيني يوم كان مسؤولاً عن الكنيسة المارونية حتى العام 2012. 16 عامًا لم يرتفع خلالها صوتٌ رغم “استشراس” الاحتلال في لبنان قبل فلسطين ولم يعترض متوجّس من “الخطيئة” التي قد يرتكبها الكاردينال إذا ما قرر مرافقة البابا فرنسيس الى بيته الماروني حيث لـ10 آلاف فلسطيني ماروني صامدٍ في الأراضي المقدّسة و2000 خارجها حقٌّ عليه، كما لسائر موارنة أنطاكيا والمشرق الحقّ نفسه.
خوفٌ منهم لا منه
لا يلعب توقيت الزيارة في صالح الراعي، ورغم استغراب بكركي من حملة الـ”قيل” والـ”قال” التي انطلقت بصمتٍ قبل أن تخرج الى الضوء، يحرص كثيرون على ممارسة ما تسمّيه مصادر بكركي “اصطياداً في الماء العكر” من خلال الإشارة الى تزامن الزيارة مع احتفال المقاومة بعيد التحرير. اليوم، يثق اللبنانيون بالراعي ولكنهم يعرفون جيداً الألاعيب الإسرائيليّة، وهو ما يدفع الكثيرين منهم الى الارتقاء بفرضيّة “إحراج الراعي أمام البابا بمصافحة أو بسمة أو حتى دردشة متسللة من الجانب الإسرائيلي”. تلك الفرضيّة غير قائمة في حسابات بكركي، فالبطريرك واعٍ لمثل هذا الاحتمال ومستعدٌّ نفسياً لها لا بل وضع الفاتيكان في كلّ أجوائها حتى حرص الأخير على ما علمت “البلد” على الاستجابة للائحة شروطٍ وضعها الراعي تمسكًا منه بأحقية القضيّة الفلسطينية وبتسمية إسرائيل بـ”العدو” لا أقل من ذلك.
عرفٌ واضح…
في هذا المضمار، يشدد النائب البطريركي العام المطران بولس صياح لـ”صدى البلد” على أن “البطريرك الراعي واعٍ جداً لكل السيناريوهات وليس إحراجه سهلاً كونه مستعداً لكلّ شيء”. وما إذا كان يفكّر في إمكانية الاعتكاف عن الزيارة قال صياح: “شخصياً لا يمكنني أن أحسم هذا الأمر، فهو سيعود غداً وسيقول كلمته. نحن بكلّ بساطةٍ فوجئنا بهذا الجوّ الذي طفا على السطح لأننا لم نفكّر حتى في الأمر ولم يمرّ في ذهننا أن الزيارة قد تسبّب مثل هذه البلبلة، خصوصًا أن أهداف الزيارة وظروفها معروفة وواضحة. ثمّ المسؤول عن الكنيسة المارونية، حتى قبل الاحتلال وبعده، كان يذهب الى الأراضي المقدسة ويعود بلا مشاكل. وهناك عرفٌ يقول إنه يذهب الى فلسطين المحتلة بشكل طبيعي لأن هناك رعيّة تابعة له. انطلاقاً من هذه الحقيقة لم نعتقد يومًا أن الزيارة يمكن أن تتخذ هذا البعد. فأنا شخصياً كنتُ مطراناً مسؤولاً عن الكنيسة المارونية وكنتُ أدخل عبر الناقورة وأعود طوال 16 عامًا مستخدمًا جوازاً فاتيكانياً، وكانت الأمور عاديّة ومقبولة من دون أي تساؤلات حتى”.
أيغيب صاحب البيت؟
تتسلّح بكركي بحقيقة فصل المسيحيّة الدين عن الدنيا لتقول إن الراعي ليس ذاهباً للتطبيع بل في زيارة رعوية ليس مدرجاً على جدولها أيُّ لقاءاتٍ سياسيّة تشي بوجود بصمةٍ إسرائيليّة. ويشير صيّاح الى أن “الراعي، ورغم وجود رعيّة كبيرة تابعة له في الأراضي المقدّسة، ما كان ليتخذ قرار التوجّه الى هناك لو لم يكن البابا سيزورها. ببساطةٍ عليه أن يستقبل الحبر الأعظم كونه رئيس أكبر كنيسة كاثوليكية في الشرق، وهو بالتالي يأتي الى بيعته ومنطقته، لا سيما أن كنيسة القدس تابعة لرعيته. فهل يجوز أن يغيب صاحب البيت عن استقبال الحبر الأعظم الذي يزوره في بيته لخلافٍ مع جاره؟ من هذا الباب قرأنا الزيارة، ونحن نفصل بين الدين والدنيا أي بين السياسة والدين، وهذا ما على الجميع أن يفهموه”. ولكن هل وصل بكركي أيُّ اعتراضٍ رسمي؟ يجيب صياح: “لم يصلنا اعتراضٌ بشكل رسمي ولكننا نسمع أصداءً من هنا وهناك. علمًا أن الراعي عندما يذهب الى زيارة أبناء رعايته فهو سيّد نفسه”.
هواجس مشروعة
ربّما أحرج البابا الكاردينال الراعي بطلب مرافقته، وربما لم يضغط عليه في هذا الشأن إلا أن الراعي من تلقائيته شعر بأهمية أن يكون برفقة الحبر الأعظم في زيارةٍ الى الشرق وهو الكاردينال المشرقي المنغمس في عضوية مجامع تابعة للفاتيكان لم يحظَ بها كاردينالٌ لبناني أو مشرقي من قبله. تلك التسويغة غير كافيةٍ بالنسبة الى الهامسين في سرّ هواجسهم ببعض الأسئلة المشروعة: من سيستقبله؟ من سيسهّل مروره؟ من سيرافقه؟ من سيمنحه التصريح؟ من سيبتسم في وجهه وقد يبادله البسمة عن براءة لا عن قصدٍ لظنّه أنه فلسطيني لا إسرائيلي متسلل بلا قلنسوة؟ من سيصافحه من دون أن يعلم؟ من سيلامسه في زحمة الأجساد المتداخلة المتدفقة من كلّ حدبٍ وصوبٍ لرؤية البابا ومن بينهم إسرائيليون ومستوطنون؟ ألا ينسحب التطبيع بين الفاتيكان وإسرائيل على الوفد المرافق الآتي باسم الفاتيكان في نهاية المطاف وتحت مظلتها؟ ألن ينسّق مع وزارة الخارجية الإسرائيلية بصفته ضيفاً على أراضٍ في قبضتها؟
ما بعد العودة…
بهدوءٍ ردّ الراعي على منتقديه غير الرسميين حتى الساعة. “الزيارة ذات طابع ديني ولا علاقة لها بالسياسة”… وبهدوءٍ سيردّ في الساعات القليلة المقبلة استناداً الى مشاوراتٍ موسّعة علمت “صدى البلد” أنه قد يخوضها مع أقرب المقربين اليه وجمعٍ من المطارنة الموارنة لتقييم الآثار السلبية والإيجابية ووضعها في ميزان واحد قبل الخروج إما بالتسويغات المناسبة لتثبيت قراره بعد منحه كلمة المرافقة للبابا وإما بالاعتذار عن الذهاب والعودة الى الفاتيكان لاسلكياً أو دبلوماسياً بالأحجيات التي تُضعِف موقعه وموقفه في حال تمسّكه بالزيارة. حتمًا سيرفض الراعي “تسييس” الزيارة و”خندقتها” بين معسكرين أولهما سيرميه بوابل تعليقاته وانتقاداته من تحت الطاولة أو من فوقها متى تيقّنت مشاركته، وثانيهما سيستغلّ سلوكيات الأول ليقطفها لصالحه دفاعاً عن الراعي ومكانته، حتى لو كان في قرارة نفسه مقتنعاً بعدم صوابية الزيارة. لن يدخل الكاردينال في مثل هذه التعليقات التي تحسبه على هذا الفريق أو ذاك، ولن يعقّد الأمور أكثر مما تستأهل، تمامًا كما لن يسمح لأحد بأن يضع زيارته الى سورية في كفة مقابل زيارته الى “إسرائيل” (مع التحفظ على التسمية). “فالثانية عدوّة لا محال ولا يزايدنّ أحدٌ على وطنية الراعي في هذا المجال” تقول مصادر كنسيّة. ولن تلعبها بكركي على شاكلتهم لتذكر الكثيرين بتحالفهم سياسيًا مع إسرائيل فيما وقفت هي سدًّا منيعاً في وجهها طوال فترة ما بعد النكبة.
لن يدير أذنه الصمّاء
بعد ساعاتٍ سيسمع الراعي الكثير، سيقرأ الكثير وسيستقبل الكثيرين. لن يدير حتمًا أذنه الصمّاء لكلّ هذه التعليقات ولكنه لن يستلهم سوى سيّده الذي ولد وقبر وقام منذ 2014 عامًا في تلك الأرض التي من المتفرض أن يزورها قريباً إلا إذا…

موارنة المهد…
يشير أحمد حامد القضاة في كتابه “نصارى القدس” (2007) في معرض حديثه عن بداية الوجود الماروني في القدس الى أن “بعد اندلاع فتنة عام 1860 في لبنان شهدت القدس قدوم عدد من الموارنة إليها بحثاً عن الأمن والاستقرار. ونتيجة استقرار الموارنة في القدس، عين الخوري لويس الدحداح الماروني ليشرف على شؤونهم الدينية، وسعى البطريرك مار يوحنا بطرس الحاج في نهاية القرن التاسع عشر الى إقامة بطريركية للموارنة في القدس، وطلب من المطران إلياس الحويك النائب البطريركي شراء قطعة أرض ليبني عليها البطريركية المارونية، فاشترى محلا واسعاً في جبل صهيون بالقرب من برج داوود، وبنى عليها مقر البطريركية المارونية، وتولى رئاسة البطريركية النائب البطريركي المطران الياس الحويك”. علمًا أن مدينة حيفا تحتضن العدد الأكبر من الفلسطينيين الموارنة (قرابة 3500 نسمة).

 

السابق
450 حالة ولادة في الشهر للنازحات شمالاً
التالي
«مي وملح» أسلوب جديد للتضامن الفلسطيني مع الأسرى