أهل الضاحية الجنوبية ينزحون عنها ببطء وصمت

ضاحية نازحين
نزوح سكاني أبطاله الطبقة الميسورة في حارة حريك، المنطقة التي ضربتها التفجيرات الانتحارية في ضاحية بيروت الجنوبيّة، وركود اقتصادي يطال الشوارع التجاريّة فيها، ويأمل السكان أن تنتهي الحرب في سوريا كي تعود الحالة الى ما كانت عليه من أمان ونشاط اقتصادي زاهر.

لم يكن يخطر في بال السيد علي مهدي الأمين انه سوف يضطر وعائلته، ولأسباب أمنيّة، أن يفارق شقته في “حارة حريك” بضاحية بيروت الجنوبيّة، لينزح ويقطن محلّة “الحازميّة” التي تقع على تل يشرف على بيروت من ناحيتها الشرقيّة وتسكنها غالبيّة مسيحيّة.

فالسبب الأمني الوجيه الذي جعل الأمين ينزح على عجل هو سلسلة التفجيرات بواسطة السيارات الإنتحاريّة التي ضربت الضاحية الجنوبيّة، وكان آخرها منذ أسبوعين حين انفجرت سيارة ملغومة انتحاريّة في “الشارع العريض” بحارة حريك على بعد حولي 100 متر من المبنى الذي يسكنه.

يقول الأمين الذي يفتخر أنه من جمهور “المقاومة” الأوفياء، وهو صاحب مكتب استخدام يؤمن خادمات أجنبيات من الخارج ويعتبر نتيجة لعمله من الطبقة الميسورة: “مناصرة حزب الله في مقاومته لإسرائيل وللمؤامرات الداخليّة التي يتعرّض لها لا يعني أنني مضطر إلى المجازفة بحياة أبنائي، فالشارع العريض، حيث وقع الإنفجاران الإنتحاريان الأخيران، هو الممر الذي يسلكه باص المدرسة الذي يأخذ أبنائي الثلاثة ويجلبهم الى المنزل، وبالتالي فلا مجال للمخاطرة “.

وحول قرار النزوح عن حارة حريك وكيف اتخذه يشرح الأمين: “قررت وزوجتي ان نرحل عقب الانفجار الثالث الذي ضرب الضاحية الجنوبية،الانفجار الأوّل في الشارع العريض ذهب ضحيته خمسة شهداء وعدد من الجرحى، وكان قريبا جدا من منزلنا، إذ اهتز المبنى الذي نسكنه وشعرنا برعب شديد بسبب قوّة الإنفجار، وشممنا رائحة الدخان والبارود والموت، ولقد طرحت هذه الفكرة على صديقي الصحافي المعروف عباس ناصر مراسل “الجزيرة”، وهو يسكن الحي نفسه الذي أقطنه، فوافق بسرعة وشجّعني بدوره على الإسراع  بمشروع الرحيل والنزوح عن المنطقة، فانتقلنا سوية، وأصبحنا جيرانا في الحازميّة، فهو أيضا متزوّج ولديه عائلة وأطفال يضن بهم عن هول هذه التفجيرات الإرهابيّة الدمويّة”.

أما السيّدة بادية فحص، الكاتبة الصحافية التي تسكن في مبنى يقع على المدخل الشرقي للشارع العريض بمحلّة الرويس، تذكر في نصّ مؤثر رغبتها بترك منزلها. فبعد التفجير الثالث الذي استهدف محيط سكنها وكادت أن تفقد ابنتها التي مرت بحاذاة مكان الانفجار بسيارتها قبل دقيقة، كتبت: ” أهب إلى الخارج، أراقب حركة الراكضين، أسمعهم يقولون في الشارع العريض أيضا، على مقربة من الإنفجار السابق، يجتاحني هدوء الإقرار بالخسارة، أنهار في مكاني، أتكوم على نفسي، كسجين يعد سياطا يتلقاها، أحاول التشبث بأضعف أمل يحضرني، أعيد حساب الوقت بين خروجها ودوي الإنفجار، يكذب عليّ قلبي بدقيقة يحشرها قبل أو بعد، يطمئنني أنها ربما تكون كافية لتهزم الموت، لتنجو كما نجت نوار، ابنتي الكبرى من عناقيد الغضب، التي كادت تقطف عناقيد طفولتها في عز نيسانها، كما نجا عاصم (ابن بادية) صدفة، من انفجار الرويس منذ أشهر، كما نجونا كلنا يوم هربنا من النبطية إلى زبدين أثناء حرب تموز، نفتش عن ملجأ يحمينا من حمم الطائرات الإسرائيلية، فوصلنا والصواريخ إليها، وشهدنا كيف تتطاير الجثث في الهواء، وتهطل الدماء فوق الرؤوس كالمطر”.

اليوم انتقلت بادية وعائلتها إلى منزل والدها خارج الضاحية وهي بانتظار أن تعثر على شقة مناسبة تسكنها في بيروت أو في إحدى المناطق الآمنة المجاورة للعاصمة.

مثال ثالث، هو أحد الأساتذة الجامعيين، الدكتور محمد .ط. وقد أصيب المبنى الذي يقطنه في تفجير الرويس منذ أربعة شهور، باع منزله بسعر بخس بعد اعادة ترميمه وسكن في ضاحية المنطقة الشرقية لبيروت.

تجاريا، ومنذ بدأت تضربها التفجيرات الإنتحاريّة ىالإرهابيّة، تعاني الضاحية الجنوبيّة من ركود اقتصادي متصاعد.

يقول أحد تجار منطقة بئر العبد م. ع.، وهو يرجو عدم نشر اسمه، إنّ “محلات الملبوسات والأحذيّة تعاني أكثر من غيرها. فالبيع فيها يكاد أن يتوقّف، وقام العديد من أصحاب المحلات في سوق معوّض التجاري بتخفيض قيمة الإيجارات طواعيّة إلى النصف. وهي سابقة تحدث للمرّة الأولى، في حين أن مخازن المواد الغذائيّة تأثرت ولكن بنسبة محتملة وتراجع الإستهلاك الى النصف، اذ أصبح يفضل الكثير من سكان الضاحيّة شراء تموينهم من مراكز تجاريّة مركزها بيروت وغيرها من المناطق الآمنة غير المهدّدة بالتفجيرات”.

وفي شارع الشهيد السيد هادي نصرالله، حيث صالات عرض المفروشات والأثاث المنزلي والأدوات الكهربائيّة، وحيث كانت السيارات تقف طويلا بفعل الإزدحام المروري، تطالعك هذه الصالات وهي فارغة من الزبائن. فلا لزوم للمخاطرة والتفرّج من أجل شراء كماليات ممكن الإستغناء عنها هذه الأيام. ولهذا فقد زالت الإزدحامات وباتت السيارات تمرّ في الشارع المذكور ولا تتوقف إن جيئة أو ذهابا.

هي أوقات عصيبة تمر بها الضاحية الجنوبيّة، وقد تفاءل سكانها خيرا بعد القبض على”الشيخ عمر الأطرش”، مجنّد الإرهابيين وناقلهم وسياراتهم الجانية من سوريا بحسب التحقيقات التي أجرتها مخابرات الجيش اللبناني. وقد مرّ الأسبوع الماضي دون تفجير انتحاري فتفاءل الناس خيرا، غير أن تفجير الهرمل السبت أعاد خلط حساباتهم ورفع من منسوب خوفهم وقلقهم، وزاد من الخوف وطيّر اطمئنانهم تفجير الشويفات أمس.

وإلى أن تنجلي الغبرة في سوريا ويتم الإتفاق بين المتقاتلين ومناصريهم من اللبنانيين، لا يبدو أن الشعور بالأمان والطمأنينة سوف يجد طريقا الى النفوس وتعود الأمور الى ما كانت عليه لما قبل 9 تموز 2013، تاريخ انفجار السيارة المفخخة الأولى في بئر العبد.

السابق
رفض ذكوري للكوتا النسائية.. وتردد نسوي
التالي
ميقاتي: الوضع اللبناني معلق الى أن تتضح الصورة في المنطقة