يوم لاهاي

في مرحلة مُبكرة من عمري صحافياً طلب مني الأستاذ غسان تويني تغطية وقائع محاكمات مميّزة، على أن يكون النص أقرب إلى التحقيق أو القصة القصيرة. كان ذلك مطلع ربيع العام 1959.

فتوجهت إلى قصر العدل الذي كان مقرّه قريباً من السرايا، ويشغله اليوم مجلس الإنماء والإعمار. تذكّرتُ، وأنا أتابع وقائع الجلسة الأولى لمحكمة لاهاي الدولية الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، كيف ساد قاعة المحكمة الصمت والسكون حين صاح “المباشر” هيئة المحكمة، وكيف سارع المحامون إلى تزرير ردائهم الأسود الطويل. ارمِ الإبرة في الأرض تسمع رنّتها.

دخَل الرئيس القاضي بدري المعوشي ومعه أعضاء المحكمة وجلسوا جميعهم فوق القوس وتحت ميزان “العدل أساس المُلك”.

في متابعتي لوقائع الجلسة الأولى للمحاكمة التاريخيّة لاحظت التطابُق والتماثُل، في الشكل على الأقل، بين هذه المحكمة وتلك التي كان رئيسها مثالاً للنزاهة والترفّع. فتوسّمت خيراً بالنسبة إلى المسار والأحكام، والنهاية التي تُعيد الابتسامة إلى وجوه وقلوب نسيت الفرح والأمان.

تأكّد للناس أجمعين من كلام الرئيس سعد الحريري، معطوفاً على سُمعة المحكمة الدولية برئيسها وأعضاء هيئتها، “إننا في قاموسنا لا نطلب ثأراً بل عدالة”. ولا نطلب انتقاماً بل حقاً. ولا نسعى في أثر غُنم سياسي، إنما ننشد الحقيقة التي لا تنفع معها “محاولات التهرّب وحماية المتهمين”.

من هنا، واستناداً إلى هذه المبادئ الواضحة، قيل في لاهاي المحكمة والمحاكمة إن الخامس عشر من كانون الثاني 2013 هو يوم تاريخي، ليس بالنسبة إلى لبنان وحده، إنما لجميع دول الأرض ومحاكمها. ويوم العدالة التي تُبلّغ من يعنيهم الأمر، ومَن حاولوا التشويش بكل الوسائل، أن العدل لا يموت وأن الحق أقوى من كل القوى والأقوياء وكل الوسائل التي يلجأ إليها الإجرام.

لقد دفع لبنان واللبنانيون عموماً ثمناً باهظاً جدّاً، بفقدان الرئيس رفيق الحريري والصف الطويل من الشهداء الذين كان لبنان يقوى بهم، ويتحضّر للانطلاق صوب آفاق جديدة، وصوب استحضار ذلك البلد الذي كان قمر العالم العربي ومقصَدَهُ.

فكان مسلسل الاغتيالات. وكانت تلك الانتكاسة التي قصمت ظهر الوطن الصغير الخارج لتوّه من مسلسل حروب الآخرين، وحروب المشتركين في صياغة أبشع مؤامرة في هذا العصر.

شُلّت دورة الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتعطّلت المؤسسات والدولة بكل أدوارها ومسؤولياتها وأفسح المجال للدويلات لتبسط هيمنتها وسيطرتها، وإيصال “قطعة السما” إلى حال من الفوضى والتسيّب والإخلال والفساد، وإلى ما لا يمكن اختصاره… لكنه معروف لدى كل محبّي لبنان وأصدقائه.

فهل تكون “لاهاي” عند حسن الظنّ، وتوفّر للبنانيين بصيص أمل بعودة الروح إلى نفوس طفحت بالبغضاء واليأس؟

السابق
المحكمة الدولية تتحدّى الملل
التالي
وحدانية الرئيس الجنرال