المفخخات، من فنون القتل التي صُفّق لها مراراً…

من بين فنون الحرب الأهلية اللبنانية الماضية (1975-1990)، كان هناك القنص والذبح على الهوية الدينية وإشتباكات المحاور مع “العدو” الأهلي، أو إشتباكات الشوارع وسط “الصف الواحد”، بين بيوت المتعاطفين مع هؤلاء المسلحين، أو مجرد قصف عشوائي متبادل بين “الاعداء”. وعشية الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، أي في واحدة من مراحل هذه الحرب، سادت بيروت موجة تفجير عمياء أو مصوبة، بالسيارات المفخخة، أو بغيرها. بعد هذه الموجة استكملت مراحل هذه الحرب، إلى أن هلك اللبنانيون، فسلموا رقبتهم للأسد الأب؛ وذلك ليس قبل ان يودي تفجير مصوَّب بحياة رئيس الجمهورية آنذاك، بشير الجميل، ومن بعده، رينيه معوض.
ثم أتت مرحلة ثانية، أهدافها لم تتغير، من إمبريالية وصهيونية؛ وفي مروحة فنون القتل عندها جديد-قديم هو العمليات الإنتحارية ضد “أهداف”، تقتصر غالباً على الأبرياء. أصوليتان تداولتا هذا الفن: الشيعية منها كانت في الطليعة، بفضل الثورة الإسلامية الإيرانية؛ ومجال إختبارها الأول ضد “العدو” القومي، إرسالها أطفالا محملين بمفاتيح الجنة، لا وظيفة لهم غير أن تكون دروع بشرية، مفخخة موضوعياً، تتقدم صفوف المقاتلين المزوّدين بالسلاح. ثم لحقتها الأصولية “الجهادية” السنية بعد عقد من الزمن بالمرحلة “التأسيسية” لإرهابها، عبر اختراق برجين توأمين في نيويورك، وقتل الآلاف من الأميركيين. الأصوليتان دشنتا قيادتهما لمعركة ضد الغرب الكافر أو الصهيوينة، باهتمامت متفاوتة أو مؤجلة، قوامها إنتحار ونحر.
ومن جانب علمانيي ويساريي الإطمئنان، ناكري هزيمتهم، كان الإنبهار بهذه الإستشهادات البطولية، والتهليل، وقصائد الإنشاء حول إستمرار النضال، الذي صار “ممانعة” ضد الإمبريالية والصهيونية. بإسم شيء من الشعوبية ظلوا يفرحون بهذه العمليات؛ من دون الإنتباه ان القتل بأشكاله صار أداة مقدسة؛ من دون الإنتباه إلى أن مختلف فنون القتل، تتمتع بالترحيب العارم في وعيهم وفي لا وعيهم. كانت كل عملية إنتحارية ضد الإسرائيليين، أو الغربيين، تحظى بإعجابهم، بصفتها “خلصتنا” من طفل “صهيوني” أو عجوز “إمبريالي”. عميد أسرانا قتل طفلة، وبعض “أبطالنا” القابعين في زنزانات الغرب قتلوا مدنيين…
لذلك، عندما توقف، أو تجمّد الصراع المباشر مع إسرائيل، كانت كل طاقة القتل هذه تتوجه نحو الداخل؛ تلك الطاقة التي مجّدناها من صميم قلوبنا، طاقة القتل هذه، صارت بيننا، بصمتها أو قرقعتها. أي انها أخذت وجهتها “الأهلية”. لم يحصل قنص أو خطف على الهوية أو اشتباكات شوارع إلا في طرابلس، حيث القوى المتواجهة شبه متكافئة. وهذا لم يجنب المدينة ويلات السلاح الذي سيسود بيروت، أي السيارات المفخخة. في صيدا حاول أحمد الأسير ان يخلق خطوط تماس داخل المدينة، أن يقلد طرابلس، أن يوفر للمدينة كل المقومات المطلوبة لهذا الوجه أو ذاك من الحرب الأهلية. لكنه لم يفلح. وقد ولّد إخفاقه ظاهرة الخائبين (على وزن “العائدين”) المستعدين للقيام بما تطلبه على الأقل واحدة من شروط الحرب الأهلية، أي العمليات الإنتحارية. فالتحق بعضهم لخدمتها ليموتوا من أجل أن يموت غيرهم.
الإنتحاريون أتوا مع الأصوليتين الراهنتين، أصحاب عقيدة واحدة تعدهم بالجنة، على يمين الأنبياء والأولياء، لو “إستشهد” واحداً منهم، قاتلا أناساً لا هو يعرف وجههم ولا عمرهم ولا ظرفهم، ولا هم يدركون ذنبهم…
الآن، ما الذي يسمح بتصور ان السيارات المفخخة بانتحاريين سوف تكون أبرز أشكال الحرب الأهلية الكامنة؟ أولا، طبعاً لأن تقاليد القتل، والمفخخات واحدة منها، راسخة في دنيانا. إذا كنا نقبلها ضد “عدونا” الخارجي، كمنهج لمغالبته، فما عدا مما بدا لكي نرفضها ضد أنفسنا: انه المنطق نفسه، القتل نفسه، العائد الى منبعه.
أما ان تقتصر وحدها، فهذا من باب عدم التكافوء العسكري بين طرفي الصراع: فهناك من جهة، “حزب الله”، الأصولي، المدجج بالسلاح، هو طرف في هذه الحرب، وهناك خصمه، معسكر 14 آذار، الذي تتفاوت فيه الطاقات ولكنها تلتقي حول هزال تسلح بعض اطرافها، وعدم بلوغ اي منهم مستوى يليق بما يتمتع به الحزب الأصولي الشيعي. ولكن وسط المعادين لهذا الحزب هناك طرف أصولي سني بدأ يذيع، خصوصا في المناطق الفقيرة الهامشية، ويأخذ معه شبابا نحو الوجهة “الجهادية” الإنتحارية. وبما ان هذه الوجهة غير متأصلة في بيئة خصوم الحزب، وبما ان هذا الحزب خرق الحدود اللبنانية عندما هبّ لإنقاذ بشار الأسد، فان القاعدة اللوجسيتية المنظمة لهؤلاء الانتحاريين الشباب لن تكون سوى البئية السورية، التي صارت ميداناً مزدهرا لحرب أهلية ربما مستدامة، يتمتع الخائضون فيها بقدرات عسكرية ولوجيستية شبه متساوية، بدليل استمرارهما في القتال.
المشهد كما نتصوره كالتالي: أصولية شيعية تقاتل في سوريا، تغرف من هذا القتال إدعاء بالقوة وبالوزن الثقيل، تريد ان تفرض شروطها… وإذا كانت هي غير متورطة مباشرة بتفجير السيارات ضد خصومها من”أهل السنة”، فان حليفها السوري البعثي، غارق بها حتى اذنيه. ولكن بالمقابل لا يمكن القول بأن الذي قرر وأمر ونظّم تفجيرات الضاحية الجنوبية (معقل الحزب)، هم انتحاريو 14 آذار، أي واحد من الشخصيات او الاحزاب المنضوية تحت لوائها. تأتي التفجيرات ضد الضاحية، بتنفيذ شباب متحمس، ولكن بتمويل وتنظيم من الأصولية السنية الجهادية، التي لن تتنكر يوما لتعصبها المذهبي ولقراراها وإقرارها بقتل الشيعة والعلويين “الروافض” أينما وجدوا. لبنان، من هذه الزاوية يبدو مثل الفناء الخلفي، مثل المكان الذي ترمى فيه البقايا، التي تؤثر على مجرى الحدث، ولكن فقط من الباب السوري العريض.
مقارنة بسيطة: بدءا من 2005، يوم اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وبالطريقة التفخيخية نفسها، انهالت الإغتيالات على قادة 14 آذار، بتفجير عبوة أو سيارة مفخخة… حتى بلغوا الاثنتي عشر شهيداً. يومها، بدا معسكر 14 آذار مثل خلية منذورة لموت محتم، ومن دون أي إحتمال بالإقتصاص. ثم أتى 7 أيار والقمصان السود، وتعليق جنبلاط انه بصراحة عدل عن مواجهته لخصومه لأنه خاف منهم. الى ما هنالك من شواهد على طغيان الحزب الأمني العسكري وتحكّمه بمصيرنا وسياستنا. لذلك، منذ تفجير موكب الشهيد رفيق الحريري، وحتى آخر شخصية نيابية من 14 آذار، كانت الجرائم تتوالى، من دون ردّ ممكن، أو مجنون، عليها.
أما الآن، فالوضع تغير؛ صار للسنة أصحاب العصبية، الذين رضعوا فكرة إهانة ابناء طائفتهم على يد الشيعة، صارت لهم قواعد سورية ينطلقون منها لقتل الشيعة. ولكن بالوسائل “الخفيفة” التي لا تتطلب أكثر من إنتحاري وسيارة مفخخة. وعندما يقول العديدون بأن الحزب ورط الطائفة الشيعية في حلقة مفرغة من الدموية، بعبورهم حدود لبنان نحو قوات بشار، وبالعبارات المذهبية الهستيرية نفسها التي يطلقها نظراؤهم الجهاديين… فإنهم بذلك لا يشمتون، ولا يبررون، ولا “يستثمرون” ولا يحرضون، إنما يعطون تفسيراً معيناً لجهنم السيارات المفخخة المفتوح. وهو تفسير يفتح باباً أمام فهم القليل مما يحصل؛ من انها حرب غير متماثلة الأطراف، 14 و8 آذار، إنما هي حرب بين حزب الله والجهادية الاسلامية العابرة للحدود؛ وعبور الحدود هو من طموحات الأصوليتين، في اساس نشأتهم و”إنجازاتهم” و”إنتصارتهم”.
يبقى على التحالف العريض لـ 14 آذار أن يشدّ من عصبه، أن يستقل وينفصل تماما عن القاعدة السلفية ولا يخضع لإغراء مداراتها، أو إرضائها، أو السكوت عن خطرها، ولإعتبارات انتخابية صرفة. يبقى عليهم ان يحاسبوا مثلا نائبا “مؤمنا”، له ولاية على الناس لأن أمه حلمت بالرسول وهي حامل به، فانطلق في الحياة كالصاروخ، لا تقف بوجهه عقبة…

السابق
اللحظات الأخيرة قبل الموت.. أسرارٌ باتت حقائق
التالي
النظامان السوري والإيراني يقفان وراء اغتيال الحريري