لا حلّ ولا حلولّ… لا جذرية ولا إصلاحية

تقصد بسؤالك “حلاً” ما، أقترضه من كتب أو رؤى، أو “نماذج”، أو حتى من عقلي المحض، أقدم فيه للقارئ شهادة حسن سلوك، على كوني محلّقة فوق، في عالم “الفكر” الصافي، الشبيه بالجنة، حيث لا حسابات ولا خلفيات ولا عنف؛ حيث لا وجود لغير كائنات أمثالي، أتناغم معها على ألحان براعتنا، وتفوّقنا على غيرنا في التنظير الذي لا ينتهي حول لبنان الكيان، أو الدولة، أو القانون، أو المواطن؛ ذلك ان أكثر “الشخصيات العامة” شعبيةً في الوسط الشبيه بوسطي، هي تلك التي لا تتوقف عن النطق بكلمات “الحل” السحرية لأزمة نظامنا.

إذاً، التصورات والتنظيرات في هذا الموضوع، تكاد تشكل غالبية الأدبيات اللبنانية، الكبيرة منها والصغيرة، الجذرية منها والاصلاحية، المعاصرة منها، وتلك التي كتبَ لها التاريخ شيئاً من البقاء. وهي كلها نوقشت في ندوات ومنابر ولجان وجمعيات وأُسس من أجلها أطر لقاء دوري، منتظم، كلها تقول كلمات طيبة عن الكيان والدولة والمواطن الخ. أين ذهبت كل هذه الكلمات الآن؟ كأنها ريح مرّ من هنا… ريح منعش، ذكي، مفعم بالأمل. لكنه في النهاية ريح، عاد الى حيث لا تجد الأفكار لنفسها أيّ لغة مشتركة مع الواقع، أيّ صدى.
الأقل من الحلول الكيانية، شيء أقرب الى الإصلاح الخجول، الى النية الصالحة بتحسين ظروف الأزمة اللامتناهية للكيان اللبناني، شيء مثل “إلغاء الطائفية” مثلاً؛ في بداية تسعينات القرن الماضي، بعدما خرج لبنان مدمّى من حرب الخمسة عشر عاماَ، وكان “الطلب الموضوعي” المطروح على النظام السياسي أن يدخل في نوع من البحث عن طائفيته الحادة، تلك التي أشعلت التقاتل الغبي لعقد ونصف وعقد. فكانت المباراة- البدعة التي أوجدتها الطبقة السياسية المتمكّنة من عقول العباد، أن وضعت نفسها في حال من “الصراع” حول “إلغاء الطائفية السياسية”.
فكان التقاذف العبقري بين نوعين من “الإلغاء”، بين مسيحيين يشعرون بأنهم خرجوا من هذه الحرب مهزومين، ومسلمين يعتقدون بأنهم انتصروا فيها: الأولون لن يرضوا بإلغائها “كلياً” قبل إلغائها في “النصوص”، التي يشعرون بأنهم الأقدر على التحكّم بها، أي إنهائها لصالحهم. فيما الآخرون، المسيحيون، يصرّون، بالأريحية نفسها، على أنهم لن يقبلوا بدايةً إلا بإلغاء الطائفية في “النفوس”، تفادياً لغبلة العدد وإعمالاً لتراثهم العريق في إجتراع معنى للبنان. المهم أن شيئاً طفيفاً لم يتحقّق، “إلغاء الطائفية” لم يتحقق، لا في “النفوس”، ولا في “النصوص”. ذلك ان اللبنانيين، بعد تقاتلهم وهلاك دولتهم، عادوا فلفّوا حول رقبتهم أطواقاً طائفية أضيق من تلك التي تركوا فيها روحهم في حربهم الماضية.
من يتذكر الآن السجال العقيم الذي دار منذ جيل، أو اثنين، حول الإلغاء في “النفوس” أو “النصوص”، عليه ان يشك في حسن نيات أصحاب اللسان الأكثر طلاقة في هذا “السجال”؛ همْ همْ أنفسهم الذين كانوا يختنقون غضباً من كل هذه الطائفية أمام أعينهم، هم الآن زعماء لطائفة أو زمرة منها، مذاهب ونحل متناحرة.
حالياً، الوضع كله أكثر تعقيداً مما كان يوم كانت التنظيرات عن الكيان اللبناني تفيض عن معناها. أكثر تعقيداً وتداخلاً وتشابكاً مع امتداده السوري والإقليمي. دخلنا معمعة حرب بين تطرفين إسلاميين، الشيعي، الإيراني المركز، الذي بدأ يقدم أوراق اعتماده الى الغرب، بصفته شريكاً له في “محاربة الارهاب”… وهو “إرهاب” كانه هو أيام مسعاه الى القوة الخارجة عن نطاقه، لكنه الآن لم يعد يخدمه، على الأقل “استراتيجياً”. على كل حال، الإرهاب الذي يعنيه، هو مزيج من شعب سوري وإسلاميين متطرفين. ما كان يعنينا كل هذا الامر لولا دخول “حزب الله” الى جانب القيادة الإيرانية الداعمة لحرب بشار على شعبه، أي على الذي صار بعد ذلك إرهاباً. فكان الإخلال الأسطع بالكيان اللبناني في هذه الحرب، بدخول قوات “حزب الله” جنباً الى جنب مع قوات بشار الأسد؛ تلته، أو تقدمت في “مواجهته” مجموعات إسلامية سلفية من الأطراف السنيين، ما لبثت أن “انتظمت”، نسبياً، ولملمت إماراتها المتناثرة، فانتقلت الحرب الى “الساحة” اللبنانية بأوجه أخرى؛ اذ لم تكن هذه الحرب قد همدت لحظة. حسناً. فوق ذلك كله، أو بالأحرى بالتناسق مع ذلك كله، أطلت علينا التعطيلات المختلفة لكل المؤسسات الديموقراطية، التشريعية والتنفيذية، وقريباً الرئاسية. فكان الطلب على الحل، على أيّ حل، أيّ إجراء، أيّ شيء ينمّ عن إرادة انسانية بأن المهزلة لا يمكنها أن تستمر؛ فالكارثة مقبلة لا محالة… الخ.
من المغري، مع أنه من غير الأخلاقي كثيراً، أن يتذكر المرء كم من المرات بلغت مخاوفنا حول لبنان ذروتها و”تحمّلنا” أوضاعها، و”تكيّفنا” معها؛ ألسنا نحن شعب “الفينيق”، دائم القيام من رماده؟ مع ذلك، لم يحصل شيء غير اننا استمررنا على قيد هلاكنا مع الأزمات؛ بدءاً بمصيرنا القريب، وانتهاء بنظام سيرنا وانقطاع كهربائنا، وغوصنا في وحول الفساد والأمطار. بعد ذلك، وفوق ذلك كله، أزمة لاجئين سوريين، مثل القنبلة الأخرى.
من المغري جداً التندّر على حالات أصعب من تلك… وعبرناها. ولكن من الأخلاقي أخذ الموضوع بقليل من الجدية، والعودة الى الحلول التي تتطلبها تلك المرحلة الراهنة: أول ما يطرأ عن “الحلول” خارج التنظير لها، هو تحديد هوية أصحابها: من هم هؤلاء الذين مطلوب منا أن نجد حلاً لأزمة بلادهم؟ هل هم لبنانيون؟ هل يكفي أن يعلن زعيم مذهبي أن “لبنان وطنه النهائي” ليكون هو وجمهوره وشبكاته ومؤسساته وقراراته وشعارته وعلمه وتوجهاته… كلها لبنانية؟ بمعنى أن إطار تفكيرها هو مصلحة لبنان؟ أم سوريا؟ أم سوريا- لبنان؟ أم شيعية؟ أم سنية؟ أم أرثوذكسية؟ أم لاتينية؟ هل قرر اللبنانيون ان يكونوا أولاً لبنانيين لكي ينشغل بال العلماء الأجلاء بحلول لهم؟ كيف لهم ان يفكروا في أناس يرفعون أعلام بلدان أخرى؟ بولاءات أخرى؟ بأشواق أخرى؟ بوثْبات أخرى؟
المشكلة الثانية للحلول أنها على جمالها وجاذبيتها، الا أن بينها وبين التطبيق سنوات ضوئية. كلها ينقصها ما يمكن تسميته بـ”خريطة طريق”، أي الجانب الإجرائي، الذي بواسطته تأخذ الحلول طريقها الى التطبيق، وذلك بصرف النظر عن النظافة الكلية لأصحابها أو أصحاب الأدوار بداخلها. عندها، وعندها فقط، يمكن التكلم عن حلول. أن يتفق هؤلاء الذين اتفقوا انهم لبنانيون، أن يلتزموا خريطة الطريق هذه، بغير واسطة نوابهم المنتخبين طائفياً أو مالياً أو تسلطياً؛ ذلك أن الحلول لا يمكن أن تكون، ولا حتى تدّعي أنها طائفية، أو “مدعومة” مالياً أو عسكرياً… ان يلتزم هؤلاء الذين اتفقوا على أنهم لبنانيون إذاً، ما يوصلهم إلى دولة وقانون ومؤسسات. بغير طرق إجرائية لتطبيق الحلول، تبقى الحلول كلام سياسيين، كلام مثقفين، كلام مقاهٍ، كلام جرائد…
أما الآن، وقد أخذت أزمة النظام السياسي اللبناني طريقها هي أيضاً نحو “الأقْلمة” والعوْلمة بأحدث وجوهها، وأقدم عقائدها، فمن المجدي الإهتمام بتلك الجوانب “الجزئية” من حياتنا، التي لا تقل خطورة عن الجوانب “المصيرية” التي تنكبّ عليها “الحلول” عادةً: العمارات التراثية، الزواج المدني، مساعدة اللاجئين السوريين، العنصرية ضد الخدم الأجانب، العنف ضد النساء، المثلية الجنسية، التدخين في الأماكن العامة، الحيوانات الأليفة، التشجير… وغيرها من المسائل التي تمسّ حياتنا، وقد تؤثر فيها أكثر من الحروب الدائرة بالقرب منها. هذه الجوانب التي تنعقد حول مسائل محددة، بوتيرة عادية، بتواضع العارفين بالواقع، ربما هي أكثر حيوية، أكثر ديناميكية من تلك الدعوات شبه الشمولية التي تدّعيها “الحلول”، ذات الإدعاء بالعظمة. قد يخرج من هذه الحركات مستوزرون “مقبولون”، قد تطيح رياح التاريخ العاتية كل تراكماتها البطيئة والمتواضعة. لكنها لها فضيلة نسج علاقات وتفاعلات تعوّض، ولو قليلاً، عن تمزق النسيج الاجتماعي والعائلي، نسيج هو كالأوكسيجين في زمن اختناق هوائنا. هذا مجرد كلّه ترجيح، رهان، لا شيء مؤكداً في خواتمه.
كما ترى ليس عندي حلول، لا جذرية ولا إصلاحية؛ وهذا ليس مصدراً لتعاسة عندي، ولا لإحساس بالبؤس. بل هو أصل سخريتي من كل الذين يصرّون على كونهم أصحاب حلول أو تجسيداً لها. فبعد وقت سوف نحتاج الى “حلول” تنقذنا منهم.

السابق
قوى الأمن الداخلي قررت منع سير الشاحنات ليلة رأس السنة
التالي
السنيورة: لدينا ثلاثة أيام من التعازي وبعدها نرى