حكومةً أخلاقيةً ولو لمرةٍ واحدة

في ظِلّ تعذّر تأليفِ حكومةِ دولةِ لبنان، فلنؤلفْ حكومةَ شعبِ لبنان. ليُحوّلْ كلُّ قضاءٍ مجلسَ اتحادِ بلدياتِه حكومةً محليّةً انتقاليةً تدير شؤونَ الناس، تَسهر على أمنهم، تمنعُ اللجوءَ والنزوح، تُنتج المياهَ والكهرباء، تُحدّث المواصلات والاتصالات، تحافظ على البيئةِ والنظافة، تجبي الضرائب، تَقضي على الفساد المركزي، تَضبط التربية والتعليم، تُنعِش القرى، تُنشِئ المؤسسات، تَخلق فرصَ العمل، وتُنقذ المواطنين من طبقةٍ سياسية محكومةٍ لا حاكمة.

اليومَ أفضلُ من الغد. هذه هي اللامركزية: من خلالها تُطِلّ الأجيالُ الشابّة، والنُخبُ الطموحة، والطاقاتُ المقهورة، والوطنيّون الجدد، والقادةُ الصادقون؛ يُطِلّ التغيير… الدولةُ لم تُقِرّ اللامركزيةَ بعد، فلْيَفرُضْها الشعب، فليملأْ الفراغَ الحكوميّ ويوقفْ بَلْقَنَة الدولة.

خَشيْنا الكانتونات الجغرافية فوَقعنا في بَلْقَنَة الدولة؛ وأركان البَلْقَنَة لا يَسمحون بقيام حكومةٍ لا تعكِس البَلْقَنَة القائمة. وهذا أحدُ أوجُه الأزمةِ الراهنة. بَلْقَنَةُ الدولةِ اللبنانية عامرةٌ منذ اتفاق الطائف. ضاعفها الانقسامُ السياسي بين “8 و14 آذار”، عمَّقها الصراعُ بين السُنّة والشيعة، ظهَّرتْها الحربُ السورية، وغَسلَت إسرائيل أياديها منها.

اجتاحت البَلْقَنَةُ مختلَفَ مؤسساتِ الدولةِ الدستورية والعسكرية والأمنية والاقتصادية. كلُّ مَذهبٍ صادرَ مؤسسةً وأخذ مفاتيحَها، ومعاً أدخَلونا في ثلاثية جديدة: المقاطعةُ والإقطاعيّةُ والقطيعة. وصِلةُ الاتصالِ في ما بينهم سفراءُ ومخابراتُ دولٍ أجنبية (من ليس لبنانياً هو أجنبي). انتقل اللبنانيون من دولة المؤسّسات إلى مؤسّسات المذاهب، فتفكَّكت الدولةُ وترنَّح النظام وتعثَّر الوطن وتَهدَّد الكيان وأُحرِجَ الميثاق.

إشكاليةُ لبنان التاريخية هي أنّ شعبَه المنقسمَ على ذاته وعلى غيره عاجزٌ عن توحيد دولته، وأنّ دولتَه المقسِمةَ بين طبقتِها السياسية وبين مكوّناتِها عاجزةٌ عن توحيد شعبها. وكلّما تجاهلنا هذه الإشكالية في حياتنا اليومية، تُفاجِئُنا في حياتنا الوطنية عندَ كلّ استحقاقٍ أو قرار أو خِيار.

إنها مأساةٌ تستهلك الأجيالَ اللبنانية كما السيارةُ تُحرق الوقود. والمشكلةُ أنَّ ما مِن فريق يتجاسر ويَضَع حدّاً لهذه المعاناة حتى باتت مواقفُنا السياسيةُ تَخرج عن معايير الأخلاقيات الوطنية. “القادةُ” يَهربون من مواجهة المصير اللبناني الجديد بطرحِ حلولٍ تَزيد فُقدان المناعة فيَتفَشّى الداءُ أكثرَ فأكثر. وأخِر الطروحات سيّلٌ من الصيغ الحكومية.

كل الحكوماتِ في لبنان تتساوى بشكل أو بأخَر لأنّ المشكلةَ أبعدُ وأعمق. وإنْ فكّرنا مليّاً نكتشف أن كلّ حكوماتِنا هي حكوماتٌ حيادية بمعنى أنها تنأى بنفسها عن قضايا الناس. وهي حكوماتُ تصريفِ أعمال بمعنى أنّ القراراتِ الكبرى تُتَّخذ خارجَ مجلس الوزراء. وهي حكوماتُ وِحدةٍ وطنية بمعنى أنّ الفسادَ قاسِمُها المشترك.

وهي حكوماتٌ سياسية بمعنى أنَّ وزراء التكنوقراط يتحوّلون مرشّحين إلى رئاسة الجمهورية كخِيارٍ أَوّل (أَرسَل الله إليكم مخلِّصاً) أو إلى النيابةِ كخيارٍ يائس (لتكن مشيئتُكَ يا الله). ربما وحدَها حكومةُ الإنقاذِ الوطني متميّزةٌ نسبياً لأنها تَجمعُ بين قراراتِ هيئةِ الحوار الوطني وصلاحيّاتِ مجلس الوزراء. ولكن مِثلَ هذه الحكومة تستدعي التنقيبَ عن قادةٍ كبار، إذ إنَّ المتوافرَ منهم أحياءَ لا يَكفي لتأليفِ حكومةٍ ولو مصغَّرة (ما كانت الحسناءُ ترفَعُ سِترَها لو أن في هذي الجموعِ رجالا).

من هنا إن الخلافَ على شكلِ الحكومة (نسبةُ التمثيل) وعلى نوعيتها (سياسيةٌ أو حيادية) وعلى برنامجها (إعلانُ بعبدا)، هو خلافٌ مُصطَنع يَحجُب السببَ الحقيقيّ الذي هو وجودُ قرارٍ لدى مكوِّناتٍ، مختلِفةِ الاصطفاف، بعدمِ حسْمِ الوضع اللبناني قبل رؤيةِ الهلالِ الشيعي أو الهلالِ السنّي على مدى الشرق الأوسط، ولو أدى ذلك إلى كسوف القمر اللبناني. كافٍ هذا السلوكُ لسقوط هذه المكوِّنات في امتحان “الولاء للبنان” فقط.

لكن الجديد، أن السُنّةَ والشيعةَ لا يَنتظرون وحدَهم هذه المرة رؤيةَ أحدِ الهلالين، بل يشاركهم أطراف من كل الأديان. هكذا يَتجلّى التضامن الوطني على لبنان عِوضَ أن يَحصلَ حولَ لبنان. وَداعاً سنةَ 2000 وعُذراً سنةَ 2005، ورحِمَ الله شهداءَ السيادةِ والاستقلالِ والقرارِ الوطني الحر.

قاومنا من أجل تحريرِ أرضنا ثم سَيَّبْنا حدودَها، ناضلنا في سبيلِ انتزاعِ القرار الوطني من سوريا فجَيَّرناه “لحامِليه” بدلَ من أن نُبقِيَه امتيازاً لنا. فهذه الحكومة التي لم تؤلَّف، وقد مضَت ستةُ أشهرٍ تماماً على تكليفِ تمام سلام (من 6 نيسان)، تُشكَّل في سِتِّ ثوانٍ لحظةَ يأتي الإذنُ من الخارج.

انتقلنا من بطاقاتِ تسهيلِ المرور على الحواجز السورية إلى الأذونات السياسية. لماذا انتحرَ غازي كنعان؟ لماذا انتقل رستم غزاله من عنجر إلى ريف دمشق؟ تغيرت الأسماءُ والدول، والارتهانُ واحد.

لذا نرى رئيسَ الجمهورية يَرفع الصوت، يُبرِّد الشروط، ينادي بـ”إعلان بعبدا”، ويضع المجتمعَين العربي والدولي أمام مسؤولياتهما. ومع ذلك هناك من لا يُعجبه الأمر. فإذا لعِب رئيسُ الجمهورية دورَ الحكَم اتُّهِم بالضعف، وإذا لعِب دورَ الحاكم اتُّهِم بالفئوية، وإذا لعِب دورَ ناظمِ الحياة العامة قام عليه الجميع.

وإذا بدّى مصلحةَ لبنان ينصحوه (والنصيحةُ بجَمَل) “أن يَصبرَ فلا حربَ ولا ثورةَ في لبنان”. لكنْ في لبنان – أيها الناصِحون – متفجراتٌ وسياراتٌ مفخَّخة وحدودٌ سائبة ومليونُ نازحٍ سوريّ ونِصفُ مليونِ لاجئ فِلسطيني وتنظيماتٌ إرهابية “عا مد اللِحى” وسلاحٌ غيرُ شرعي ومؤسساتٌ تتساقط واقتصادٌ ينهار وأجيالٌ تهاجر، ولدينا خصوصاً أصدقاءُ يَغنونا عن أعداء.

إن دولاً دعَمت اللبنانيين ليتحرّروا من الاحتلال، أكان إسرائيلياً أم سورياً، تَستطيب اليومَ دورَه، فيتصرّف بعضُ أركانِها حيالَ لبنان، رئيساً وقادة وموفدين، مثلما تصرّف أسلافُهم، وأحياناً شركاؤهم. هذا مرفوضٌ علماً أن شخصياتٍ لبنانيةً تشجّعهم على أن يُعامِلوها كذلك (مَن يَهُنْ يَسهُل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ). أنذاك أَخذ النظامُ السوري لبنان رهينةً وورقةَ تفاوضٍ مع أميركا وإسرائيل وأوروبا والخليج.

وها هم الأوصياء على عددٍ محترَمٍ من المكوّنات اللبنانية يستعملون لبنان في صراعاتهم حولَ النظام السوري والملفِ النووي الإيراني والأمنِ الخليجي والعلاقاتِ مع أميركا والتسوياتِ الدولية غيرَ عابئين باستقرارِ لبنان واستقلالِه وبدولته ومؤسساتها: سلاحٌ ضد سلاح ومالٌ ضد مال وأصوليةٌ ضدّ أصولية، وإرهابٌ ضد إرهاب ولبنانيون ضد لبنانيين.

هناك أطرافٌ تشاهد ولا تريد أن ترى، تسمع ولا تريد أن تُصغي، وتقرأ ولا تريد أن تفهم: حصل تفاهمٌ أميركي روسي وتقاربٌ أميركي إيراني ومقاربةٌ جديدة للحربِ السورية. انتُخب رئيسٌ جديد في إيران وتسلّم نظامٌ جديد الثورةَ في مصر وبَرز عصبٌ معاندٌ في السعودية. هُمِّشت ممالكُ وإماراتٌ ودولٌ كبرى ومتوسطةٌ وصغرى… ولا يزال هؤلاء الأطراف اللبنانيون يرفضون مواكبةَ هذه التحولات وكأنّ الشمسَ والقمرَ والأرضَ تدور كلُّها حول بقايا “8 و14 آذار” فقط لا غير، وحول الثلاثيةِ المدمِّرة: الشعب والجيش والمقاومة (هذه حبرٌ على ورق).

في هذا السياق، ليس لبنانُ البلدَ الوحيد الذي يتأخر فيه تأليفُ الحكومات أشهراً. هذه حالاتٌ عرَفتها دولٌ عريقة بديموقراطيتها كاليونان وإيطاليا وبلجيكا، لكن سببَ التأخير هناك كان سياسياً لا أخلاقياً. أما في لبنان، فخلافاً لما يعتقد الناس، لا توجد عندنا أزمةٌ سياسية أنتجت أزمةً حكومية، بل أزمةٌ أخلاقية أنتجت أزمةً وطنية، وليست الأزمةُ الحكوميةُ سوى أحدِ أعراضِها.

بصراحة، إن نقضَ الاعترافِ بلبنانَ “وطناً نهائياً”، ومخالفةَ شعارِ “لبنانَ أولاً”، وتعريضَ لبنان لاعتداءٍ إسرائيلي، وتعطيلَ مصالحِ الناس، ودفعَ الشباب اللبناني إلى الهُجرة، وانتظارَ الضوءِ الأخضر من الخارج، والتدخّلَ في الحرب السورية، وعدمَ الوفاءِ لدم الشهداء، والتنصّلَ من مواثيقَ وإعلاناتٍ وقرارات، وعدمَ تحمّل المسؤولية والإقدام، وإجهاضَ نتائجِ زيارة رئيس الجمهورية إلى الأمم المتحدة، وتأخيرَ استخراجِ النفط والغاز، والحؤولَ دون وضعِ قانونٍ جديد للانتخابات، ومنعَ الشعب من انتخاب مجلسٍ نيابي جديد، والالتفافَ على حقوقِ العمّال والموظّفين والمعلِّمين، وربطَ لبنان بصراعاتِ ومحاورِ المِنطقة، والاحجامَ عن تأليف الحكومة، كل هذه المواقفِ تندرج حكماً في خانة السلوك غير الأخلاقي لا في خانة السلوك غير الوطني فقط، لأنّ أصحابها يدركون جيداً مدى الأضرار التي تُلحِقها هذه المواقف بالناس والوطن، ورغم ذلك يُصرّون على اتخاذها وتَكرارها. وحين الشعبُ يَقبلُ قليلي الأخلاقِ يكون موقـفُه لا أخلاقياً أيضاً.

العودةُ إلى المَدار الوطني تبدأ باستعادةِ المبادرة السياسية ولو انطوت على شيء من المخاطر. فقليل من الخطر هو رهان، والرهانُ على النجاح أفضلُ من أن يَرهنَنا الآخرون ويقايضون بنا. لقد فَتحت التحولاتُ الدولية أمام لبنان هامشَ تحرّك، فلا نُهملُه خَشيةَ إثارةِ هذا الطرف أو إغضابِ تلك الدولة. إن الدولَ العربيةَ والإقليمية التي تتدخل في شؤون لبنان تمرّ بوضعٍ حَرجٍ ولو عَرضت عضلاتِها بألسنةِ جماعاتها في لبنان.

فبين هذه الدول مَن هو خائفٌ على رأسه، ومَن هو خائفٌ على تسويته، ومن هو خائفٌ على نظامِه، ومن هو خائفٌ على سلاحه. وما المواقفُ المتعاليةُ والمتطرفةُ الأخيرة سوى تغطيةِ ضُـعفٍ حقيقي وقوةٍ مجازية. أيها المسؤولون لا تخطئوا التحليل. إن لكم في الإقدام حياة وفي الاحجام ملامة.

السابق
كيري دعا ايران الى تقديم اقتراحات جديدة بشأن برنامجها النووي
التالي
الحرب المنسيّة لذكرى حافظ الأسد