عندما يصبح الشيطان ملاكا

عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية في طهران، بعدما انتقلت إليها مع عائلتي، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كنا نجتمع صباح كل سبت في ساحة العلم في ملعب المدرسة، ونردد نشيد الثورة، ثم نهتف جميعا بأعلى أصواتنا: «مرگ بر أميركا»، أي «الموت لأميركا»، ونتبعها بهتاف آخر «أميركا شيطان بزرگ» أي «أميركا الشيطان الأكبر»، ونذهب إلى غرف الصفوف الدراسية، عبر ممرات مزينة بشعارات الدفاع عن المستضعفين في الأرض، ورسوم على الجدران تعبر عن دموية الولايات المتحدة حليفة الكيان الصهيوني مغتصب فلسطين.

بين الاحتمال الإيراني الصعب، في إمكانية إجبار واشنطن على الاعتراف بدور لطهران في المنطقة، والرضوخ لشروطها في أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان من جهة، وعواصف التغيير العربي التي تضرب المنطقة منذ ثلاث سنوات من جهة ثانية، وقعت إيران في فخ سياسة الإخضاع الأميركية.

فقد استطاعت الولايات المتحدة إقناع المجتمع الدولي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران؛ عقوبات استنزفت قدراتها داخليا على صعيدين اقتصادي وشعبي. فحرمت العقوبات الشعب الإيراني أدنى أنواع الرفاهية، وحرمت الحكومة الإيرانية التأييد الشعبي الذي تمتعت به على مدى عقود سبقت هذه المحطة في صراعها مع الغرب، هذا فضلا عن الإنفاق الهائل على مشروعها النووي، وتصنيع الأسلحة التقليدية، ودعمها العسكري والمالي للنظام السوري، الأمر الذي دفع بالرئيس الأسبق الشيخ هاشمي رفسنجاني، إلى الاعتراف علنا في أحد تصريحاته الجريئة بأن «الخزينة الإيرانية فارغة، والدولة شبه مفلسة».

من ناحية أخرى، تعبت إيران سياسيا ومعنويا على المستوى الخارجي، فقد تعثرت واضطربت على أبواب دمشق، بسبب تأييدها نظام يقتل شعبه، حيث بدأ الشك في ادعاءاتها حمل راية المستضعفين والمحرومين، ومواجهة الصهيونية والإمبريالية العالمية.

على وقع هذه الحقائق، أنجزت إيران انتخاباتها الرئاسية في يونيو (حزيران) المنصرم، واختار الشعب بكثافة غير مسبوقة الشيخ المعتدل حسن روحاني رئيسا له، ارتقى روحاني بمزاج الشارع الإيراني العازف عن ترديد الشعارات الآيديولوجية، وتبني العقائدية السياسية الشمولية، والمضي في السلوكيات فوق الثورية، إلى مستوى الخطاب الدبلوماسي. فحمل إلى نيويورك رغبة الشعب قبل رغبة السلطة في إنهاء النزاع مع الولايات المتحدة والغرب، فقوبل باندفاعة أميركية لم تقدر طهران على احتوائها بسرعة، لكنها رحبت بها، وتعاملت معها بجدية، بعيدا عن انتقادات بعض الراديكاليين الذين فقدوا تأثيرهم في القرار الرسمي.

من هنا يتبين أن قرار التطبيع مع واشنطن هو شعبي بالدرجة الأولى، ويفسر رعاية أو رغبة فريق المحافظين المتمثل بالمرشد الأعلى له، الذي لمس مدى استياء المجتمع الإيراني والطبقة المتوسطة خصوصا، من السياسة الداخلية والخارجية، ففوض المعتدلين بقيادة التحول الكبير.

حجم الحفاوة والعواطف المتبادلة، بين البلدين، ولهفتهما في استعجال الحلول لأغلب القضايا العالقة بينهما، ولو على حساب الحلفاء من جهة، أو على حساب الآيديولوجيا من جهة ثانية، يوحي بأن طهران والمدن الإيرانية الكبرى سوف تبدأ ورشة لمحو كثير من شعارات العداء للشيطان الأكبر، التي كتبت على مدى عقود، وأن واشنطن سوف توفد زائرا كبيرا في أي لحظة، زائرا يحتمل أن يصدم بحجم الحفاوة الشعبية التي قد يعدها له مستقبلوه، والتي قد تجعله يعتقد للوهلة الأولى أن ما جرى بين البلدين أقل من سحابة صيف عابرة.

في نهاية سبعينات القرن الماضي، كانت بيروت واحدة من عواصم عربية قليلة فتحت أبوابها أمام العديد من قيادات الثورة الإيرانية، فزارها مرارا أنجال وأحفاد حفيد السيد الخميني وكبار من فريق عمله، وسكنها لفترة قصيرة نجل الشيخ المنتظري، وأقام فيها قادة كبار منفيون تبوأوا بعد انتصار الثورة الإسلامية مناصب متقدمة في الدولة. في تلك المرحلة ربط المتفائلون بين الثورتين الفلسطينية والإيرانية، واعتبروا المتحول الإيراني تعويضا عن الفراغ الذي أحدثته اتفاقية كامب ديفيد، وفرصة للتخلص من رواسب الشوفينية القومية التي تعامل بها شاه إيران مع محيطه العربي، كما شكلت الثورة لدى الإسلاميين المخلصين السانحة الذهبية لكسر الحاجز بين السنة والشيعة، من خلال طرحها شعارات الوحدة الإسلامية، ما يجعلنا لا نصدق أنه على أبواب الألفية الثالثة، يمكن أن تتحول إيران بالانقلاب على شعاراتها إلى الخصم الأكبر في عيون الكثير من العرب، والخطر الوجودي الذي يهدد كيانهم.

في لحظة بداية تشكل وعيي في طفولتي في طهران، عدت بشكل غائم ولكنه عميق، إلى الوجوه التي كنت أراها في منزلنا في جبشيت (الجنوب) ثم في كيفون (جبل لبنان)، وتذكرت أني كنت أسمع لغة غير لغتنا، وعندما تعلمت الفارسية أدركت ما كان يحدث، وعندما رأيت الوجوه ذاتها في طهران تذكرت أني رأيت في عيونهم، وسمعت كلاما عن القدس لم أفهمه في منزلنا في لبنان، كما فهمته في طهران، وإن كنت قد أصبحت لاحقا ومنذ سنوات غير قادر على استيعاب الذي يقال عن الطريق إلى القدس، وعن رفاق الطريق إلى القدس، لأني أحتمل أن يكون كثيرون منهم قد فكروا بالقدس، لا من أجل القدس.

بعد أكثر من ثلاثين عاما على وقوفي في ملعب المدرسة في طهران، مرددا تلك الشعارات، تنتابني الحيرة بأمر الولايات المتحدة التي تتغير، وأمر خصومها الذين يتبدلون بسرعة مذهلة عند أول إشارة منها، وأضع أحلام الطفولة باستعادة القدس وانتصار المستضعفين في الأرض على الشيطان الأكبر، جانبا، مصدوما بصانع الأحلام المزيف، الذي قرر التعامل مع الشيطان على أنه ملاك.

السابق
المستقبل: الناجون من عبّارة الموت الإندونيسية يعودون غداً
التالي
اللواء: طهران تسعى لمحادثات مع السعودية تشمل لبنان والعراق وسوريا