الضربة: حدود مقصودة ونتائج ممكنة!

الكونغرس الاميركي

سعي الرئيس الأميركي باراك أوباما للحصول على رأي الكونغرس في مسألة الضربة الاقتصاصية الموعودة للنظام السوري يشكل بحد ذاته أن وقوع هذه الضربة أضحى أمراً محتماً، سواء حصل الرئيس على الموافقة من مجلسي الكونغرس أو لم يحصل عليها. وقد كان الرئيس أوباما حذراً في تأكيده أن دعوة الكونغرس إلى المناقشة بهذا الشأن ليست من أجل الحصول على إذن، انطلاقاً من قراءته، وقراءة من سبقه من الرؤساء، للصلاحيات الدستورية بما يمنحه حرية التصرف في حالات كهذه، من دون تفويض مباشر من السلطة التشريعية. فإذا ما استتب التصويت لمصلحة تخويل الرئيس توجيه الضربة، وهو الأمر المتوقع، يكون أوباما قد ضمن غطاء سياسياً لخطوته. أما إذا كانت النتيجة الاعتراض على هذا العمل ومطالبة الرئيس بالامتناع عنه، فإن أوباما قد يجد نفسه مرغماً على مخالفة موقف الكونغرس كي لا تشكل تلبيته له، إن حصلت، سابقة تلزمه الامتناع تحديداً عن استعمال أدوات استفاض في استعمالها في الأعوام الأخيرة، ولا سيما منها الطائرات من دون الطيار التي تشن حرباً متواصلة على التنظيمات المعادية من دون رقابة وتفويض من الكونغرس.
دعوة الكونغرس إلى النقاش والتصويت جاءت عقب اعتراض مجلس العموم البريطاني على أي دور لبريطانيا في الضربة المحتملة. من البديهي إذاً أن تثار الشكوك حول هدف أوباما من دعوة ما يقابل مجلس العموم البريطاني هذا في الولايات المتحدة، وفي أجواء شعبية ميالة بشدة إلى الانعرالية والابتعاد عن كل ما يمت الى الشرق الأوسط بصلة، إلى إبداء الرأي في هذا الشأن، وكأن الهدف هو الحصول على اعتراض يتمكن أوباما عبره من التملص من وعود بدا وكأنه قطعها بتحميل النظام السوري كلفة اجتياز ما رسمه هو من خطوط حمر.
إلا أن القراءة الأقرب الى الواقع، ولا سيما مع انصباب فريق عمل الرئيس على تحشيد التصويت لمصلحة الضربة، هو أن أوباما يسعى بالفعل للحصول على غطاء، ليس للتملص بل للإقدام.
وتوصيف أوباما للهدف من الضربة تكرر وبقي ضمن إطار واحد. فالهجوم بالسلاح الكيماوي الذي اقترفه النظام يشكل خطراً على المصلحة الوطنية الأميركية إذا لم يدفع من اقترفه الثمن، وذلك من توطيد سابقة على مستوى السلوك العدائي لأطراف مختلفة، من إيران إلى كوريا الشمالية، أن هجوماً كهذا يبقى من دون عقاب. وفيما يتعدى الإطار المذكور صراحة، فإن السياق كذلك يدعو إلى الحزم، فالهجوم القاتل جاء في ما يقارب تاريخ حديث الرئيس الأميركي نفسه عن خطوط حمراء تقتضي تبديل التحفظ عن التدخل بالأزمة السورية في حال تجاوزها.
وإذا كانت أشباح التجربة العراقية، والتي شهدت بدورها مزاعم أسلحة دمار شامل كحجة لتدخل يكاد الرأي العام الأميركي يجزم بأنه كان عقيماً وضاراً، تسكن الإعلام والسياسة في الولايات المتحدة وتفرض على كل معادٍ للضربة أن يستعيد مزاعم حكومة الرئيس السابق بوش وتأكيداتها أن النظام العراقي حينها كان مستمراً في انتاج سري لسلاح الدمار الشامل، وهي تأكيدات ثبت أنها خاطئة بل برأي العديدين كاذبة، فإن الجهد السياسي والإعلامي لطاقم الرئيس، ولا سيما وزير الخارجية جون كيري قد نجح بإبراز الاختلاف العميق بين الحالتين، إذ لا شك هنا بتاتاً في أن السلاح الكيماوي قد استعمل، والمعلومات الاستخبارية التي يكشف عنها تشير بوضوح إلى أن مسؤولية الاعتداء تقع على النظام السوري، لا على الثوار الذين وفق الروايات المثبطة لا يستهدفون بالقتل إلا حاضناتهم الشعبية.
ويمكن الإشارة إلى تسليم ضمني في معظم الصف المعادي للضربة بموضوع مسؤولية النظام عن الهجوم الكيماوي من خلال الانتقال إلى خط دفاع ثانٍ يتمثل بالتحذير من النتائج الكوارثية للخطوة الأميركية، ومن التنبيه تحديداً إلى أن هذه الخطوة من شأنها أن تستدعي من النتائج ما لم يكن في حسبان طاقم الرئيس وأن تؤدي بالتالي إلى توريط طويل الأمد للولايات المتحدة بالمستنقع السوري، بل ان تعرض المصالح الأميركية في عموم المنطقة للهجوم والنكاية.
ولا شك في أن الرئيس أوباما نفسه متوجس فعلاً من هذه الاحتمالات، ومن هنا تأتي تأكيداته المتواصلة على أن الهدف الصريح للضربة سيكون تحميل النظام السوري ثمن إقدامه على استعمال السلاح المحظور، وليس تبديل موازين القوى أو إسقاط النظام أو غيرها من الأهداف التي يتمناها المعارضون. غير أن الرئيس يتعرض كذلك لاتهامات متكررة بأنه يسعى إلى شكل دون مضمون، من خلال الكشف عن محدودية العملية وتوفير الوقت للنظام لبعثرة قواته وعتاده بما يخفف من احتمالات خسارتها، وما يستتبع ذلك من طمأنة النظام إلى أن استيعاب الضربة سيطوي صفحة التدخل الأميركي.
والكلام في الأوساط المقربة من الرئيس هو أن النظام قادر بالفعل على توزيع سلاحه وتتريسه بشرياً بما يجعل الوصول إليه مسألة صعبة، وليس الهدف من الضربة تدمير هذه الذخائر أساساً، لما قد يؤدي إليه ذلك من تداعيات بيئية وغيرها. بل الهدف هو الطعن بهيبة النظام، ورموز هذه الهيبة، من قصور قيادته إلى وزارة الدفاع وغيرها ثابتة، وهي بالتالي عرضة لتدمير ينفي عن الضربة سمة التأديب الصوري.
وبين الرغبة الأميركية بتقويض هيبة النظام اقتصاصاً وحاجة هذا النظام إلى الهيبة للمحافظة على تماسكه الداخلي وسطوته على عموم السوريين تتبدى أطراف معادلة الضربة المقبلة، وذلك على خلاف ما قد يبدو بديهياً. فالبداهة ظاهراً الافتراض أن انكفاء النظام بعد الضربة دليل هزيمته، والتصعيد بالإرهاب والاعتداء والانتقام من السوريين دليل فشل الضربة.
أما المعطيات الذاتية للمواجهة الحالية فتفيد بأن امتناع النظام عن رد الفعل قد يكون دليلاً على أنـه تمكن من استيعاب أضرار الضربة وأولـويته بالتالي هي إبقاء الولايات المتحدة خارج المسألة السورية، أما جنوحه إلى ردود فعل فإشارة إلى أن الضربة قد صدعت نفوذه إلى حد يصبح معه توسـيع نـطاق المـواجهة هو السـبيل إلـى تأجـيل سقوطه المحتوم. لا شـك في أن أوبـامـا يفـضل الاحتمال الأول. ولكنه، من خلال التصويت في الكونغرس، يستعد للاحتمال الثاني.

السابق
الاستقلال التام والموت الزؤام معا
التالي
الضربة المتوقعة تربك التلفزيون السوري!