مشروع العبارة ــ المؤامرة

كل المبرّرات موجودة ومشروعة للتخوف من طبخة سياسية، قد يكون البعض، أو كثيرون، في صدد إعدادها، على أن يتم إخراجها عبر المجلس الدستوري، والهدف مجدداً: رأس ميشال عون، وطبعاً رؤوس حلفائه. القصة موضع الشك والريبة، منسوجة من عدد لا يستهان به من التفاصيل و«التخييطات». مثلاً، كيف وافق النواب الـ 97 على التمديد للمجلس النيابي، استناداً إلى أسباب موجبة، محصورة ومقتصرة على الخلفيات الأمنية؟ علماً أن هذه القطبة الأولى في حياكة «المؤامرة» المحتملة، تصطدم بمسألتين مناقضتين لها: أولاً، أن المنطق الدولتي يفترض ويفرض أن تكون السلطة التنفيذية هي المسؤولة عن تقدير الأوضاع الأمنية في البلاد، لا السلطة التشريعية. وبالتالي فإن قانوناً لتمديد ولاية البرلمان، لأسباب أمنية بحتة، كان يفترض أن يأتي بمشروع قانون من الحكومة، لا باقتراح قانون من النواب. ثانياً، أنه فيما كان المجلس النيابي يتذرع بأسباب أمنية غير مشمولة باختصاصه، كان وزير الداخلية، المسؤول المباشر عن الوضع الأمني كما عن إجراء الانتخابات وإدارتها، يؤكد جهوزية وزارته لذلك، وبالتالي قابلية الأوضاع الأمنية والعامة لإمرار الاستحقاق النيابي.

إنها مسألة أولى، قد تشكل مادة تأسيسية لحياكة قرار المجلس الدستوري. بعدها تأتي قطبة ثانية. كيف لمجلس النواب أن يحدد فترة التمديد بسبعة عشر شهراً، لا أقل ولا أكثر، إذا كان الدافع فعلاً إلى إرجاء موعد الانتخابات أمنياً؟ وهي مدة تتخطى ما يمكن أن يعتبر فترة زمنية محدودة من طلب التريث أو الاستئخار، لأسباب تقنية أو إدارية بحتة. مسألة ثانية، يمكن أن يقدمها الطابخون إلى المجلس الدستوري، على أنها مادة إضافية صالحة لإكمال الحياكة المطلوبة.

يبقى أصلاً وقبلاً، أن الأسباب الدستورية والمبدئية الموجبة قبول الطعن وفيرة وكثيرة في قانون 31 أيار الماضي. بدءاً بمخالفته الفقرات «ب»، «ج»، «د» و«ه» من المقدمة الميثاقية للدستور، ذات القوة التأسيسية العضوية الفوق – دستورية، وصولاً إلى مخالفته المواد الدستورية 7، 42 و44. فضلاً عن مخالفته العديد من القواعد الدستورية العامة، كما مبادئ المواثيق الدولية التي يلتزم بها الدستور اللبناني.

هكذا، واستناداً إلى كل ما سبق، يحكى أن طباخي المؤامرة الجديدة، يحاولون استدراج المجلس الدستوري إلى قرار يقبل بموجبه أياً من الطعنين المقدمين ضد قانون التمديد، من رئيس الجمهورية ونواب التيار الوطني الحر. غير أن قبول الطعن المطروح لن يكون النهاية. فصحيح أن المجلس الدستوري لا صلاحية له لإملاء رأي تفسيري أو تصحيحي أو تعديلي على القوانين التي ينظر في صحة دستوريتها أو عدمه. وبالتالي، من حيث المبدأ، لا يمكن لهذا المجلس الذي يمثل سلطة القضاء الدستوري العليا في لبنان، أن يقول للنواب التمديديين: أنا أرفض اقتراحكم البقاء في مقاعدكم 17 شهراً إضافية، لكن أقبل لكم بستة أشهر فقط!

لكن في المقابل، يمكن للمجلس الدستوري في قراره العتيد أن يوحي، أو أن يعطي الإشارة اللازمة أو المتفق عليها سلفاً بين المعنيين. وثمة سابقة واضحة في هذا المجال. ذلك أنه سنة 1996 أقر مجلس النواب قانوناً للانتخابات، مخالفاً للدستور والميثاق، كما كل قوانين انتخابات الزمن السوري. غير أن المرحلة كانت دقيقة، عقب فضيحة استحقاق 1992 الشهير والمقاطعة الواسعة يومها. وهو ما انكبّ الوصي العنجري على معالجته، منذ إقفال صناديق 1992 الفارغة. فجاء برفيق الحريري وأطلق عملية دخانية كبرى تحت عناوين الإعمار وربيع 2000. ومن ضمنها كان المطلوب ضخ وهم ديمقراطية ما في الجو المعارض المقاطع، خصوصاً المسيحي منه. هكذا فجأة، بعد إقرار قانون العام 1996 انبرى عشرة نواب للطعن فيه. فتحمس المعارضون المقاطعون سابقاً، واعتقد بعضهم أن ما يجري مسألة تستحق الترقب، لا مجرد مهزلة من إعداد أبي يعرب. إلى أن اكتملت فصول مسرحية التضليل يومها. قبل المجلس الدستوري الطعن، وأسقط القانون المشكو منه. غير أنه سمح لنفسه، بحذاقة الجوهرجي، أن يضمن قراره الرقم 4/ 96، تاريخ 7/8/1996، عبارة سحرية جاء فيها حرفياً: «حيث أن قانون الانتخاب رقم 530/1996 في المادة الثانية الجديدة من مادته الأولى، عندما اعتمد معايير مختلفة في تقسيم الدوائر الانتخابية ــــ من دون أن يلحظ أن ذلك حاصل على سبيل الاستثناء من القواعد العامة، ولأسباب ظرفية يراها المشترع متصلة بالمصلحة العامة العليا، وإن لم يأت على تبريرها ــــ يكون قد أخلَّ بمبدأ المساواة أمام القانون، مما يقتضي بالتالي إبطال المادة الثانية الجديدة المذكورة». تلك العبارة الاعتراضية المدسوسة في وسط الفقرة كانت كل القصة: «من دون أن يلحظ أن ذلك حاصل على سبيل الاستثناء»… أي أن قضاة المجلس أوحوا للنواب يومها بصراحة سافرة، أنه يكفي أن تضمّنوا قانونكم الأعرج والأعوج، عبارة وحيدة، تقول بأن اعوجاجه هو «استثنائياً ولمرة واحدة»، ليمشي الحال. وهكذا صار. عاد القانون إلى ساحة النجمة. عاد النجوم إلى تلبية الإملاءات العنجرية. أضافوا العبارة الموحاة، فمر القانون مجدداً، ومن دون طعن حتى. وفي تلك الأثناء، تحمس الناس، وصدقوا أن هناك انتخابات. وأغدق ضابط عنجر وعود التنويب على أكثر من ألف مستنوب. فحصلت الانتخابات وسط تنافس شديد، وارتفعت نسبة المشاركة من نحو 16 في المئة سنة 1992 إلى نحو 45 في المئة سنة 1996…

شيء مماثل يعدّ له بعض السياسيين. يطبخون رداً من المجلس الدستوري للقانون، لكن مع عبارة موحية من نوع: حيث أن هذا التمديد لأسباب أمنية لا يعود للمجلس تقديرها، وحيث أنه في المقابل، لو كانت الأسباب الموجبة للتمديد هي إدارية تقنية بحتة، لما وجب أن تتعدى فترة زمنية قصيرة لا تتخطى (…) على أن يملأ الفراغ بعدد الأشهر المطلوب. فيعود القانون إلى المجلس، ويكون مرسوم الدورة الاستثنائية جاهزاً لملاقاته. فيصدر فرمان التمديد مجدداً، لكن هذه المرة «تقنياً ولأشهر محدودة». فنذهب إلى انتخابات هذا الخريف، وفق قانون الستين طبعاً، لكن بحسب الأجندة الزمنية المريحة للفريق الحريري، والتي كان قد طلبها صراحة، أولاً ليكمل استعدادته «اللوجستية»، وثانياً لتتذلل حالة الإفلاس الشعبي الذي ضرب حلفاءه المسيحيين. ألم يقل سمير جعجع في كلام صحافي صراحة: لننتظر بضعة أشهر ولنر ماذا سيبقى من هذه الموجة التي استفاد منها ميشال عون؟

تبقى ملاحظات ثلاث: أولاً، من هي القوى السياسية المطلوب تضافرها لتخريج سيناريو كهذا، بين بعبدا وساحة النجمه ووزارة الداخلية والمجلس الدستوري؟ الجواب: لا تعليق!

ثانياً: هل يعقل أن يكون أعضاء المجلس الدستوري عرضة لتلاعب أو ضغط واضح من هذا النوع؟ الجواب في كلام لرئيس المجلس الدستوري الحالي، عصام سليمان، في دراسة له منشورة قبل توليه مهامه الحالية، يقول فيها: «الاعتبارات الشخصية والمصالح الضيقة التي لعبت دوراً في تعيين أعضاء المجلس الدستوري، والضغوط السياسية التي مورست على هذا المجلس أحياناً، أدتا إلى المس بنزاهته وجرى إدخاله في إطار التجاذبات السياسية»…

ثالثاً، هل يمكن لتلك المقامرة أن تظل صالحة للاستخدام والتطبيق، بعد فشل مغامرة القصير؟ سؤال مشروع، طالما أن أياً من أصوات الفريق الحريري لم يرد بعد على قول يوسف القرضاوي أن العلويين أكثر كفراً من اليهود، ومن … النصارى.

السابق
القصير: نصر الله قلب المعادلة
التالي
المشهد سوداوي بامتياز