تشكيلة من غير المرشحين

السلاسة التي تسير فيها الأمور منذ أسبوعين إلى اليوم تؤشر إلى وجود «سين-سين» غير مرئية، أو الى تبديل في «التكتيك» الذي يعتمده «حزب الله»، ولكن بمعزل عن هذا الاحتمال أو ذاك، أما الأولوية فتبقى لِما تقتضيه المصلحة الوطنية.

من حقّ "حزب الله" أن يبدّل في تكتيكاته إذا ما رأى أن التمسّك بها يدفعه دفعاً نحو الهاوية، وهذا أمر جيد يؤشر في مكان ما إلى أنه يتقن لعبة حافة الهاوية ولا يقدم على خطوات انتحارية، ولكن إذا كانت الثورة السورية وارتداداتها قد أجبرَته على التراجع عن سياسة الهيمنة والوصاية المطلقة على لبنان، إلّا أن ذلك لا يجب أن يقود في المقابل إلى "التطبيل" لهذا التغيير كونه لم يأت بفِعل إراديّ ينمّ عن رغبة في التسوية، إنما جاء نتيجة ظروف معلومة دفعت الحزب دفعاً إلى إعادة حساباته وتموضعه بما يخدم علّة وجوده، أي السلاح الذي كان بدأ الوضع، الذي سبق استقالة الحكومة الميقاتية، يشكّل خطراً جدياً عليه عبر انزلاقه إلى مواجهات مذهبية يتحمّل أولا وأخيراً مسؤوليتها.

وإذا كانت معظم الأطراف عموماً لا تدخل في التسويات سوى مرغمة نتيجة ظروف خارجية تدفعها إلى عقلنة طروحاتها، فإنّ التسوية تعني عموماً التخلي عن مشاريع القوة والهيمنة من أجل البحث عن مساحات مشتركة ولو كانت ظرفية، وهذا تحديداً ما ينطبق على الوضع الحالي لأنّ التسوية الكاملة مستحيلة نظراً لارتباطها بمعضلة السلاح التي لم يحن أوان حلّها بعد، وبالتالي الكلام هو عن مجرد تسوية جزئية فقط لا غير تقود إلى تنفيس الاحتقان السياسي-المذهبي وتحول دون انفجار الوضع اللبناني وتؤدي إلى تحييد الأزمة اللبنانية قدر الإمكان عن الأزمة السورية.

ومن هذا المنطلق، المصلحة الوطنية تقتضي ملاقاة "حزب الله" إلى منتصف الطريق، ولكن لا أكثر ولا أقل، بمعنى أنّ هناك محظورين يجب استبعادهما: الأول، عدم أخذ البلد نحو الفتنة للضغط على الحزب طالما أن هذه السياسة فعلت فعلها وأثبتت فعاليتها، والمحظور الثاني عدم الذهاب نحو التسوية بشروط الحزب على قاعدة الاكتفاء بما تحقق، خصوصاً أن هناك دائما حلولا وسطى بين الحرب والهزيمة، ومن بينها الوصول إلى مخارج مشرفة تنقذ ماء وجه جميع الأطراف.

وفي حسابات الربح والخسارة يمكن القول إن الوضع عاد إلى ما قبل إسقاط الحكومة الحريرية، بمعنى أن الحزب خسر محاولة استنساخ الوصاية السورية، و14 آذار لم تحرز أي تقدم في موضوع السلاح، وكل ما في الأمر أن الأمور عادت إلى مساكنة صعبة لوَضع معقّد قررت كل أطرافه تبريد الساحة اللبنانية بانتظار انتهاء الأزمة السورية.

فقوى 14 آذار استعادت الرئاسة الثالثة، وهذه مسألة بديهية في التركيبة الطائفية اللبنانية، إذ فضلاً عن أن تسمية الرئيس نجيب ميقاتي جاءت نتيجة أوضاع انقلابية على نتائج الانتخابات النيابية، لا يمكن القفز فوق حقيقة أن "المستقبل" ومَن يدور في فلك هذه السياسة يمثّل اتجاهات السنة في لبنان والمنطقة، وبالتالي من الطبيعي أن تجسد تسمية رئيس الحكومة تطلعات هذه البيئة واتجاهاتها، تماماً على غرار الرئاسة الثانية، إلّا في حال قبول "حزب الله" وحركة "أمل" بالمساواة على هذا الصعيد، بمعنى أن تتمكن 14 آذار في حال فوزها بأكثرية بسيطة من انتخاب رئيس للمجلس بمعزل عن صحة تمثيله الشيعي.

وإذا كانت الأمور قد عادت مع استقالة الحكومة وتكليف سلام إلى مربّع التعادل، فإنّ قوى 14 آذار لا يمكن أن تتجاهل حقيقتين: الأولى، أن الوضع اليوم اختلف عمّا كان عليه إبّان المساكنة في الحكومة الحريرية نتيجة عوامل عدة أبرزها صدور القرار الاتهامي في قضية الشهيد رفيق الحريري، ودور الحزب في بلغاريا وقبرص والسعودية والبحرين وصولاً إلى الأزمة السورية، ما يجعل المساكنة المباشرة معه مستحيلة.
والحقيقة الثانية أن تسمية وزراء شيعة من دون العودة إلى الثنائي الشيعي قد يعتبر تحدياً واستفزازاً لهما، الأمر الذي يقود إلى العرقلة لا الحلحلة.

وعليه، يبدو أن المخرج الأكثر واقعية يتمثّل بقيام حكومة من 14 وزيراً غير مرشحين للانتخابات موزّعة بين 8 و14 آذار ورئيسي الجمهورية (الحقيبتين السياديتين الأمنيتين) والحكومة (الحقيبتين السيادتين الديبلوماسية والمالية)، وبيانها الوزاري يجمع بين "إعلان بعبدا" وحق لبنان باسترجاع أراضيه المحتلة بشتى الوسائل المشروعة.

وبما أن حكومة من هذا النوع لا تعتبر تحدياً لأيّ طرف أو مشروع غلبة لفريق على آخر، وبما أن الاستحقاق الانتخابي داهم، يفترض برئيس الحكومة إعداداً سريعاً لتشكيلة من هذا النوع وعرضها على رئيس الجمهورية لإصدار مراسيم التأليف، الأمر الذي يقود إلى وضعية "win win situation" لقوى 14 آذار، إذ في حال وفّر لها النائب وليد جنبلاط الأكثرية في مجلس النواب تتحوّل إلى حكومة فعلية، وخلاف ذلك يتحمّل جنبلاط، من جهة، مسؤوليته أمام المجتمعين الدولي والعربي، وتتحوّل حكومة سلام من جهة أخرى إلى حكومة تصريف أعمال بدلاً من الحكومة الميقاتية، وذلك لإنهاء كلّ مفاعيل الانقلاب السابق.

السابق
انقلاب “القمصان السود”
التالي
ميقاتي: لم أستقل كرمى لعين أحد