خندق المذهبية الغميق

لا يمكن التعامل مع الاعتداء على الشيخين في الخندق الغميق، وقبله حادثة الشياح في اليوم نفسه، على أنّهما حادثان عفويان، قامت بهما مجموعة من "الحشاشين".! بعيداً عن التفسير المؤامراتي الذي يُقال فوراً لدى نفي عامل الصدفة عن هكذا أحداث، وبعيداً عن عدم الانزلاق كثيراً في أوهام البراءة السياسية، للتخفيف من هول ما حدث وما يمكن أن يحدث. "اصطياد" الشيخين في الخندق الغميق نجح بالصدفة. ولكن الممارسات اللاأخلاقية التي وقعت ضدّهما تؤكد وتفرض استبعاد البراءة والعفوية والتحشيش، وحتى الاحتقان المذهبي. هناك مَن خطّط لوقوع مثل هذه العملية، وقد حقّق نجاحاً ملحوظاً، لأنّه بالصدفة كانت الضحية شيخين لا يجوز الاعتداء عليهما لأنّهما مدنيّان أولاً ولأنّهما يحملان على رأسهما العمامة. ولذلك ما حصل هو اعتداءان في اعتداء واحد.
يبدو واضحاً أنّ المخطط، وهنا أهم بكثير من المنفذين، تقصّد رمي النار على زيت الأحقاد في "خندق المذهبية الغميق". من المؤكد أنّ "حزب الله" وحركة "أمل" ليسا مَن خطط لمثل هذه الجريمة التي هدفها الأول إشعال الفتنة المذهبية. لكن تراكم المواقف المذهبية من ضفتي الخندق الواحد، دفع ويدفع إلى تحويل "الخندق الغميق" إلى جبهة مفتوحة. ولولا مسارعة كل الأطراف المعنية من سنّية وشيعيّة إلى تدارك الوضع وإقفال مسارب الزيت إلى "الخندق" العريض على طول لبنان وعرضه، لوقعت الكارثة.
مَن قذف النار بواسطة مجموعة معروفة بأدوارها المتعدّدة في المنطقة؟ يد المخابرات السورية بارزة وواضحة جداً. ما زالت هذه المخابرات ناشطة وعاملة في لبنان مباشراً وعبر "رجالها" و"خدّامها" والمقيدين بسلاسل الملفات القديمة. مثل هذه العملية مبرمجة بشكل جيد ودقيق. النظام الأسدي يريد إشعال لبنان، وهو يعرف جيداً أنّ لبنان مساحة مفتوحة لهذه النار. يدّعي بشار الأسد أنّه يحقق الانتصارات وأنّه غداً قبل الغد سيستعيد ما خسره. لكن لأنّه يعرف جيداً أنّه يبيع الأوهام حتى لنفسه، فإنّ أجهزته الدموية تريد إشعال لبنان مذهبياً حتى يؤكد أنّ إرهاب "القاعدة" تمدّد اليوم إلى لبنان وغداً إلى الأردن وتركيا. بذلك تنشغل كل القوى العربية والاقليمية والدولية بالعمل على إطفاء النار خارج سوريا. في حين يتفرّغ وكتائبه لإحراق سوريا والثوار. رغم دقّة هذا الاتهام فإنّ ذلك لا يرفع المسؤولية عن اللبنانيين. لقد انقسم اللبنانيون بين مؤيّد للثورة السورية وداعم للنظام الأسدي. هذا الانقسام رفع ويرفع منسوب الاحتقان المذهبي الموجود أصلاً منذ 7 أيار وما بعده. لكن أيضاً يجب القول إنّه يوجد فاعل منخرط مباشرة في جبهة عريضة، من جهة، وطرف من جهة أخرى لا يمتلك مخيلة سياسية تحميه. الطرف الفاعل يقاتل وكأنّه يدافع عن آخر حصونه. والطرف الآخر يدعم وكأنّه ينتظر يوم النصر القادم لتسوية كل الحسابات. كل هذا يعمّق الاحتقان المذهبي.
لكن بدون أي مبالغة، فإنّ "حزب الله" يتحمّل المسؤولية الكبرى في كل ما يجري. لأنّ للحزب مسؤولية المواجهة مع إسرائيل، فإذا به يحوّل كل التزاماته ومعاركه إلى الداخل. حتى انخراطه إلى جانب النظام الأسدي تحت حجّة واهية هي الدفاع عن قرى شيعية على الحدود مع البقاع، إنّما يعمّق الخندق الغميق للمذهبية، ويضع هؤلاء الشيعة السوريين أو اللبنانيين السوريين تحت سكين التهجير أو العيش في المهانة والخوف في المستقبل.
يؤكد "حزب الله" أنّ دعمه للأسد هو جزء من وفاء الدين له عندما جعل من بلاده ممراً استراتيجياً للسلاح له. لكن حتى لو كان ذلك صحيحاً، فإنّ موقف "حزب الله" في دعم النظام الأسدي، يضعه في أبغض الخانات وهي الخانة المذهبية، وما ذلك إلا لأنّه في ذلك يشكّل جزءاً من المشروع الإيراني في تأكيد كونها قوّة اقليمية مقرّرة في منطقة الشرق الأوسط بموافقة أميركية. والواقع أنّ للنظام الإيراني كل الحق في تنفيذ مشروعه القومي تحت الصيغة التي يريدها. لكن ليس من حقه أبداً وهو ينفّذ مشروعه أن يقذف بزيت المذهبية مباشرة أو بالواسطة أو بالسكوت ضمناً على الفاعل وهو النظام الأسدي على النار المشتعلة.
نظرة سريعة إلى أنّ ما يقوم به النظام الإيراني في رفع قيمة كل الأوراق التي يملكها فإنّه يبدو واضحاً استثماره للوجود المذهبي من افغانستان مروراً بسوريا واليمن والعراق وصولاً إلى لبنان. هذه اللعبة المذهبية تتعارض كلياً مع الثورة التي قادها الإمام الخميني. الثورة قامت على أساس أنّها ثورة إسلامية، لا شيعية ولا سنّية، لا شرقية ولا غربية. لهذا التحق بها أو تحمّس لها شباب عربي من جميع الأديان والمذاهب. أمّا اليوم فإنّ العمل لإقامة "حزام أخضر" لدعم إيران يُسقط كل الآمال والطموحات عن قيام تحالف عربي إيراني في مواجهة إسرائيل ومعها الغرب. لا يمكن إعفاء إيران من مسؤولية إسقاط اياد علاوي في العراق ولا "حزب الله" وإيران من إسقاط الاعتدال الحريري في لبنان اللذين فتحا الأبواب على مصاريعها أمام الاحتقان المذهبي وانفجاره بسرعة.
مسؤولية "حزب الله" كبيرة. المشكلة أنّه ليس من السهل عليه فك اندماجه الكامل بإيران وانخراطه العميق إلى جانب النظام الأسدي. لكن يستطيع "حزب الله" التخفيف من التأجيج المذهبي ورفع منسوب الاحتقان وسيادة الإحباط وصولاً إلى الحقد. من المهم أن ينجح في إطفاء نار حريق مفتعل مثل حريق الخندق الغميق، ولكن الأهم أن يعمل لمنع وقوع حرائق مماثلة وربما أخطر، خصوصاً مع وجود النظام الاسدي، إلى جانب ارتفاع منسوب الاستقواء المذهبي بالسلاح.
أيضاً وهو مهم جداً، إذا كانت واشنطن وباريس وغيرها من العواصم الغربية لا تريد امتداد النار السورية إلى لبنان فإنّها على الأقل تستطيع التسريع في إطفاء النار في سوريا، باتخاذ القرار الذي يجب أن يُتخذ وهو حسم مواقفها من سقوط الأسد، ومن خلال تسليح الجيش السوري الحر.
كل يوم جديد من الحرب داخل سوريا بين النظام الأسدي والثورة هو يوم خطر آخر للبنان، لم يعد الكلام يفيد. حان وقت الحسم.

السابق
ليوناردو يطلب يد صديقته على الهواء
التالي
أوباما في الشرق الأوسط بلا خطة أو مبادرة