معركة على الأوقاف

وقعت الواقعة بين مفتي الجمهورية اللبنانيّة محمد رشيد قباني ورؤساء الحكومة، أو بالأحرى الرئيس فؤاد السنيورة و"حليفه" الرئيس نجيب ميقاتي كما يقول بعض أبناء دار الفتوى. ما يجري اليوم من دعاوى وتهديد بالعزل وما إلى ذلك، ليس سوى أدوات استجدت في معركة قديمة يعود عهدها الأول إلى المفتي المغدور حسن خالد. العنوان الأوّل والأساسي لهذه المعركة: الأوقاف الإسلاميّة.

قصّة دار الفتوى طويلة. آخرها دعوى من قباني الخميس بتهمة تزوير محضر اجتماع المجلس الشرعي الذي مدد ولايته لنفسه. الدعوة مقدمة إلى مجلس شورى الدولة لإبطال ما نشرته الجريدة الرسميّة، ودعوة ثانية جزائية لمحاسبة المسؤولين عن التزوير. يقول المقربون من قباني، إن هناك أعضاء لم يكونوا حاضرين في الاجتماع ووقعوا لاحقاً، على أساس أنهم كانوا في الاجتماع.

دعوة قباني هذه، تأتي بعد البيان الذي وزعته السرايا الحكومية بأن رئيس الحكومة الحالي والرؤساء السابقين، دعوا المفتي إلى عقد اجتماع للمجلس الشرعي يوم السبت المقبل (وهو المجلس الذي يعتبر قباني ان ولايته انتهت ودعا إلى انتخاب مجلس آخر في 14 نيسان المقبل). مصدر مقرب من أحد رؤساء الوزراء السابقين يقول بأن هذا البيان وزع على رؤساء الوزراء عند انتهاء الاجتماع ولم يجر نقاشه. وهو ما عبر عنه الرئيس سليم الحص الخميس، الذي دعا إلى احترام ولاية المفتي الحالي والالتزام بدعوته لإجراء الانتخابات في 14 نيسان، كاسراً التوافق بين رؤساء الحكومة.

قباني لن يدعو إلى جلسة يوم السبت. نائب رئيس المجلس الشرعي عمر مسقاوي، يقول إن الرد على عدم التزام المفتي بهذه الدعوة في يد ميقاتي، مشيراً إلى أن الأخير قد يدعو الهيئة الناخبة (التي انتخبت المفتي) إلى جلسة لبحث الأمر. تأتي هذه الخطوة في سياق عزل المفتي كما تقول مصادر مقربة من ميقاتي والسنيورة. لكن المرسوم 18 أو النظام الداخلي لدار الفتوى يُشير في في مادته السادسة إلى أن عزل المفتي لا يكون إلا بحالتين: دواعٍ صحية تمنعه من القيام بوظيفته أو لأسباب خطيرة لم يجر تحديدها، ويحتاج هذا القرار إلى أكثرية الثلثين. مسقاوي يقول إن هذا الأمر في يد ميقاتي وحده، ويرد على دعوى المفتي بالقول إن الأمر لو صحيح فإنه لا يُعد تزويراً، بل يؤدي إلى إلغاء ما نشر في الجريدة الرسمية فقط.

ولكن كيف بدأت كلّ هذه القصة؟ في عهد الرئيس الراحل رفيق الحريري، كانت الأوقاف لقمة سهلة بين يدي رئيس الحكومة. فتغاضى الأخير عن المشروع الذي رفضه المفتي حسن خالد، وهو تعديل المرسوم 18، كما يقول المخضرمون في دار الفتوى. ما هي قصة هذا المرسوم؟ المرسوم 18 يُمكن اعتباره النظام الداخلي لدار الفتوى. تعديلات كثيرة مطروحة على الطاولة للبحث، لكن أهمها، هو من يُدير هذه الأوقاف. رفض المفتي حسن خالد تسليم هذه الإدارة لمدنيين. أصرّ أن تبقى الأوقاف بإشراف المفتي، لأسباب دينيّة واجتماعيّة.

عندما طُرح هذا الأمر على المفتي قباني، ردّ الأخير بالرفض أيضاً متسلحاً بموقف خالد. ينقل مقربون منه أنه سأل الوزير السابق خالد قباني عن الأمر، فأكّد الأخير أن حسن خالد رفض هذا الأمر.

مشروع التعديلات التي أقرتها لجنة رأسها السنيورة، يسحب إدارة الأوقاف من يدي المفتي. رفض قباني الأمر، وأعد لائحة تعديلات أخرى، يُصبح من خلالها للأوقاف مجلس إدارة في كلّ منطقة، يرأسه مفتي المنطقة، ويضم خبراء من شتى المجالات، ويرتبط هذا المجلس بمجلس إدارة وطني يرأسه مفتي الجمهوريّة ويضم خبراء أيضاً. رفض السنيورة هذه التعديلات، فاشتعلت الحرب بين الجانبين.

اتهم نجل المفتي بالفساد، وتبيّن لاحقاً أن الملفات التي تُشير إلى حصول سرقة، هي جزء من ملفات أكبر تُشير إلى عدم حصول سرقة. بغض النظر، كلّف السنيورة شركة محاسبة مستقلة، قامت بإجراء تدقيق في مالية الدار، وسلّمت تقريرها للسنيورة منذ أشهر عديدة، ولم يخرج هذا التقرير إلى العلن أبداً. في هذا الوقت، سعى فريق الرئيس السنيورة إلى تقديم دعوى فساد في المحاكم المدنيّة ضد المفتي ونجله، لكنه فشل. ثم تعرض نجل المفتي للضرب على أيدي أشخاص معروفين بالإسم، تم إخلاء سبيلهم خلال ساعات.

هكذا يروي أبناء دار الفتوى قصتهم مع السنيورة. في المقابل، يقول مقربون من رئيس الحكومة السابق، أن هناك فساداً كبيراً في الدار، ويجب إعادة هيكلة مؤسسات الدار لجعلها أكثر فعاليّة. وينفون أي مسؤوليّة لهم عن الاعتداء على نجل المفتي. ويتهمون المفتي بأنه على علاقة بحزب الله والنظام السوري، مستدلين على ذلك باستقباله السفير مراراً، كذلك وفداً من حزب الله في اليوم الذي صدر فيه القرار الاتهامي. هنا، يقول المقربون من قباني أن دار الفتوى مفتوحة أمام جميع من يطلب موعداً، وأنه سبق أن التقى بشخصيات عديدة.

حصلت القطيعة بين الجانبين. لكن هذا لم يكن السبب الوحيد. إذ يوم كُلف نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة، منع قباني حصار إبن طرابلس في دار الفتوى وعزله سنياً، ثم منع اقتحام السراي الحكومي بعد اغتيال اللواء وسام الحسن، تماماً كما صلّى في السرايا يوم حاصرت قوى الثامن من آذار الرئيس فؤاد السنيورة.

مع الوقت، تبيّن للمفتي بأن ميقاتي يميل إلى كفة السنيورة، وأنه لا يضع نفسه في موقع الحكم، بل الطرف. شعر المفتي بنوع من قلّة الوفاء. لذلك أصرّ في المرة الأخيرة على دعوته لانتخاب مجلس شرعي جديد، بدلاً من المجلس الحالي المنتهية ولايته بعد تمديدها مرتين.

السنيورة ربط إجراء الانتخابات بإقرار التعديلات. لاحقاً، رُفضت الانتخابات من قبل ميقاتي والسنيورة. لماذا؟ بحسب النظام الداخلي لدار الفتوى فإن المفتي يُعين ربع أعضاء المجلس الشرعي، وفي حال خرقت لوائح المستقبل بأعداد قليلة فإن ذلك يحرمه من تملك نسبة الثلثين في المجلس الشرعي وهي التي يحتاجها لإقرار اي تعديل على النظام الداخلي (هو يملكها حالياً). بعض المسؤولين في تيّار المستقبل يتخوّفون من خطوة التأجيل هذه. النائب نهاد المشنوق مثالاً، وهو الذي قال مراراً إن منطق الربيع العربي، هو منطق انتخابات وليس منطق تمديد ولايات.

بات الأمر إذا في يد القضاء، الذي يستطيع أن يحسم النقاش الحالي، فيؤجّل المعركة قليلاً أو يفرضها حالياً.

السابق
بـدّك تتعـوّد
التالي
بين الإنتخابات والنقابات