الاخبار: اقتراح المستقبل الانتخابي: سقى الله أيام شمعون

لن يجد قانون الانتخاب الذي قدّمه تيار المستقبل طريقه إلى الإقرار طبعاً. لكنّ التدقيق في مضمونه يكشف، أكثر فأكثر، نظرة هذا التيار إلى الانتخابات النيابية ودورها. فبدل سعيه إلى تصحيح التمثيل، يضمن الاقتراح هيمنة "الزرق" على غالبية المقاعد التي "فلتت" منهم في الدورة الأخيرة

حرفياً، يكتب تيار المستقبل في مقدمة اقتراحه أنه يتوخى علاج الهواجس المتعلقة بحسن التمثيل النيابي، وخصوصاً المقاعد المخصصة للمسيحيين. وما يقصده المستقبل، كما يعتقد كل مطّلع على توزيع المقاعد والكتل الناخبة، هو: 5 مقاعد في دائرتي بيروت الثانية والثالثة، 4 مقاعد في الشوف، 3 في كل من بعبدا وعكار وعاليه، 2 في كل من جبيل وطرابلس والهرمل والبقاع الغربي، ومقعد في مرجعيون، إضافة إلى معالجة تأثير الكتل الناخبة السنّية والشيعية والدرزية في نتائج الانقسام المسيحي النهائية في زحلة وجزين والبترون والكورة ودائرة بيروت الأولى.
ويتعهد التيّار "إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لتأمين أفضل تمثيل للمسيحيين".
إلا أن الاطلاع على التقسيم "المستقبلي" للدوائر لا يوحي أبداً بمراعاة الهواجس، ولا بتأمين أفضل تمثيل للمسيحيين، بحسب الباحث الانتخابي كمال فغالي. فقد أعاد الاقتراح تقسيم الدوائر بما يضمن حصول المستقبل على أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية ليوزع لاحقاً الفتات على حلفائه المسيحيين.
والبداية من الشوف. هناك، تتوزّع أصوات الناخبين على ثلاث مجموعات متساوية عددياً تقريباً: المسيحيون والسنّة والدروز. كان يكفي أن يتحالف المسيحيون والسنّة أو السنّة والدروز أو السنّة والمسيحيون ليضمنوا مبدئياً الفوز بمقاعد الشوف الثمانية. وفي حال تحالُف التيار الوطني الحر والنائب وليد جنبلاط في هذه الدائرة ضد المستقبل والقوات اللبنانية، فإن معركة انتخابية قاسية كانت تنتظر الشوف. لكنّ قانون المستقبل ضرب قيمة الصوت المسيحي وقدرته على البحث عن مصلحته، سواء مع السنّة أو الدروز. فبدل تقسيم الشوف ثلاث دوائر انتخابية، تنتخب أكثرية درزية نائبين في إحداها والأكثرية السنّية نائبين في الثانية والأكثرية المسيحية نواب الشوف المسيحيين الأربعة، تضمّن الاقتراح دائرتين: واحدة تضم كل ناخبي الشوف السنّة الذين يؤيدون تيار المستقبل بنسبة تتجاوز 70 في المئة، والأخرى تضمّ كل ناخبي الشوف الدروز الذين يؤيدون جنبلاط بنسبة أعلى. واستعاض عن الدائرة المسيحية بتقسيم الكتلة المسيحية ــــ المنقسمة أصلاً بين القوات والعونيين؛ جزء رماه في الدائرة السنّية مطمئناً إلى عدم تأثيره في نتيجة الانتخاب، والثاني في الدائرة الدرزية حيث لا يؤثر بتاتاً أيضاً في نتيجة الانتخاب. والمضحك المبكي، هنا، أن عديد الناخبين المسيحيين أكثر من السنّة بنحو عشرة آلاف صوت، لكن المشرّع المستقبلي قرر منح جمهوره المتراص في إقليم الخروب حق تعيين النائبين المسيحيين في الدائرة.
ويبلغ التمييز المذهبي عند تيار المستقبل وحرصه على الصوت السنّي ذروته في مرجعيون وحاصبيا. ففي تلك الدائرة يبلغ عدد الناخبين الدروز نحو 15 ألفاً، والسنّة نحو 24 ألفاً والمسيحيين نحو 24 ألفاً، والشيعة نحو ثمانين ألفاً. فبدل جمع الاقتراح الشيعة في دائرة، والأقليات الثلاث في دائرة أخرى مثلاً، عمد إلى إنشاء دائرة سنّية ــــ درزية، وأخرى شيعية لا يمكن الناخبين المسيحيين مهما فعلوا التأثير في نتيجة انتخاباتها. وبناءً عليه، "يحرّر" المستقبل مقعدي حاصبيا ومرجعيون السنّي والدرزي من الأكثرية الشيعية، مبقياً المقعد الأرثوذكسي رهن القرار الشيعي.
أما عاليه فأبقيت على حالها، رغم الاحتجاج المسيحي الصارخ على تسمية الأكثرية الدرزية النواب المسيحيين الثلاثة. وأبقى المستقبل جبيل على حالها أيضاً رغم تأكيد القوات اللبنانية والرئيس ميشال سليمان قدرتهما على الفوز إن قسّمت الدائرة للحد من تأثير الصوت الشيعي فيها.
وفي بعبدا، يتبيّن بوضوح التركيز المستقبلي على ضرب الكتلة الناخبة المسيحية الكبيرة حيثما وجدت. ففي هذه الدائرة وُزّعت الأصوات المسيحية، مرة أخرى، على دائرتين: تضم الأولى نحو 38 ألف ناخب مسيحي و36 ألف ناخب شيعي. وفي ظل الانقسام المسيحي، يمكن الأحادية الشيعية الفوز بمقاعدها الثلاثة من دون التحالف حتى مع أحد من المسيحيين. وتضم الدائرة الثانية نحو 44 ألف مسيحي ونحو 26 ألف درزي. وفي ظل الانقسام المسيحي، يكفي قوى 14 آذار التحالف مع النائب وليد جنبلاط لتضمن، من دون معركة حتى، الفوز بالمقاعد الثلاثة.
وإلى بيروت، اخترع المستقبل تقسيماً انتخابياً جديداً للعاصمة يضمن السيطرة السنّية (بصريح الوصف) على جميع المقاعد. فبدل إنشاء دائرة تضم غالبية الأحياء السنّية، كما فعل المشرّع نفسه في الشوف مثلاً، وأخرى تضمّ الأقليات المختلفة، عمد إلى تشتيت الصوت الشيعي في بيروت عبر توزيع الكتلة الشيعية (نحو ستين ألفاً) على دائرتين. ولم يلبث أن حرّك الأحياء لضم المزرعة إلى الباشورة في دائرة بيروت الثانية بحيث يصبح عدد الناخبين السنّة نحو 93 ألفاً مقابل نحو 29 ألف شيعي فقط. وضمّ المصيطبة إلى زقاق البلاط في دائرة بيروت الثالثة بحيث يصبح عدد الناخبين السنّة نحو 65 ألفاً يقابلهم نحو 29 ألف شيعي أيضاً. ووصل المستقبل، في اقتراحه، منطقة رأس بيروت بمنطقة المدور في دائرة بيروت الرابعة، ليوازن بين الحضور الأرمنيّ والحضور السنّي: نحو 40 ألف سنّي مقابل نحو 50 ألف أرمني، مع رهانه على انخفاض نسبة التصويت الأرمني تاريخياً في هذه الدائرة وارتفاع نسبة التصويت السنيّ في المقابل.
أما طرابلس، فيبقي المستقبل مقعديها المسيحيين ومقعدها العلوي بتصرف الناخبين السنّة، فيما يستجيب لدعوات تقسيم عكار دائرتين انتخابيتين. لكنه يراعي حساباته، قبل "هواجس" المسيحيين وغيرهم، للاحتفاظ بمقاعد عكار السبعة. فيجعل إحدى الدائرتين سنّية بامتياز بحكم ديموغرافيا الدائرة. وبدل جعل الدائرة الثانية مسيحية بامتياز، كما يأمل أهالي تلك الدائرة بحيث يخوض التيار الوطني الحر وغيره صراعاً متكافئاً مع القوات اللبنانية، يعمد إلى جعل الدائرة الثانية مختلطة: نحو 50 ألف ناخب سنيّ يقابلهم نحو ستين ألف ناخب مسيحي. ويكفي، بالتالي، أن يصوّت عشرون في المئة من مسيحيي عكار للائحة المستقبل حتى تضمن فوزها بمقاعد الدائرة المسيحية المفترضة، مع حرص المستقبل الشديد على تقسيم أصوات العلويين بـ"عدل شديد" بين دائرتي عكار للحدّ من تأثيرهم. فلو أبقى العلويين، وعددهم نحو ثلاثة عشر ألفاً، مجتمعين في الدائرة الثانية لصعب فوزه فيها قليلاً. ومن الشمال إلى البقاع، يبقي الاقتراح مقاعد بعلبك والهرمل المسيحيَّين والسنيَّين في قبضة الثنائية الشيعية، لكنه ينصف زحلة نسبياً، فيتوزع الناخبون في دائرتها الأولى (المدينة): نحو 53 ألف مسيحي، 7 آلاف شيعي، وأربعة آلاف سنّي. وفي دائرتها الثانية: نحو 40 ألف مسيحي، 40 ألف سنّي و18 ألف شيعي. ويرد المطّلعون "عدالة" المستقبل، زحلاوياً، إلى ثقته بقدرة القوات وحلفائها على تجيير أكثر من ستين في المئة من مسيحيي مدينة زحلة وقراها للائحتي 14 آذار.
بناءً عليه، يتأكد لمن يقرأ المسوّدات التي بنى على أساس نتائجها المستقبليون اقتراحهم الانتخابي أو أهدافهم أنها كانت: أولاً، تحرير الصوت السنّي في دوائر النفوذ الشيعيّ (مرجعيون مثلاً) والمسيحي (بيروت الثانية مثلاً) والدرزي (الشوف مثلاً). ثانياً، ضرب الكتل المسيحية الكبيرة وتشتيتها حيثما وجدت في دائرتين أو أكثر (الشوف وبعبدا مثلاً). وثالثاً، ضمان فوز المستقبل وحده بنصف أعضاء المجلس النيابي زائداً واحداً، وفوز قوى 14 آذار بثلثي أعضاء المجلس. ذهب المستقبليون في اقتراحهم، إذاً، أبعد ممّا وصل إليه الرئيس كميل شمعون في القانون الذي خيضت انتخابات عام 1957 على أساسه، وكان حينذاك أحد أسباب الحرب الأهلية التي اندلعت في العام التالي. جعل تيار الحريري الترحّم على أيام شمعون واجباً وطنياً.
  

السابق
الشرق: المجوقل واصل تدابيره في عرسال ومحيطها المجوقل
التالي
الجمهورية: لبنان في عين العاصفة وحزب الله أول الضحايا