لحظة الدفاع عن الكيانية اللبنانية

في زمن المزايدات الشعبوية، قرّر الرئيس سعد الحريري معاكسة السائد، والافصاح عن رأي لا شعبية له داخل "الطوائف"، انسجاماً مع الفكرة المدنية الحداثية عن الدولة والمواطنية.
كان لرأيه هذا دويّه طبعاً في الأوساط الشبابية، لكنه نزل كالصاعقة على الكثيرين. لكذا سبب. البعض برّر امتعاضه بالحسابات السياسية عشية الانتخابات، وقال ما معناه: "في زمن كل طائفة فيه تشدّ عصبها، وفي زمن على كل تيّار وازن ضمن طائفته أن يثابر على احتضانه لها، واحتضانها له". بالمعيار الشعبوي "الطوائفي"، لا وقت ولا مصلحة للحظات "مدنية" على الطريقة "البورقيبية". لكن رئيس "المستقبل" فعلها، في وقت تطرح فيه الأسئلة "المفخخة" عن المقصود بالربيع العربي، أهو ربيع "الحقوق والحرّيات"، أو هو "ربيع الشريعة".
فحتى ماضٍ قريبٍ، وفي كل مرة يطرح فيه المسلمون شعار "إلغاء الطائفية السياسية" كان يسارع المسيحيون للاحتماء بشعار "العلمانية الشاملة" بدءاً بقانون الأحوال الشخصية، فتفضّ حينها الهجمة الإسلامية لالغاء الطائفية، ويعود كلّ إلى خانته بعد "تعجيز" الآخر.
وكانت "الحركة الوطنية" بقيادة كمال جنبلاط لوحدها في بدايات الحرب اللبنانية تدمج المطلبين في برنامج إصلاحي واحد، إلا أنها سرعان ما تخلّت عن مطلب العلمانية، وضمنه الأحوال الشخصية، إثر اغتيال المعلّم، وبمبادرة من الطرف الشيوعي ضمن هذه الحركة، وفي محاولة للتقرّب من البيئة الإسلامية، وكإقرار بالتأسلم الإحباطي لليسار والقوى العلمانية بلبنان، وعلى طريق انقراضها… لكن اعترافاً في التحليل الأخير بأنه لن يكون ثمة طرف قادر لا بعد سنتين من انطلاقة الحرب اللبنانية ولا في خواتيمها أو في أثرها، على اجتراح مشروع إصلاحي شامل يستطيع أن يوازي ما حققته "المارونية السياسية" في "الجمهورية الأولى" من تجربة "حافلة" في بناء الدولة الوطنية الموروثة عن المستعمر.
أمّا خلط الأوراق الثاني فيتّصل بالعلاقة بين الفكرة الوطنية اللبنانية والطوائف وحسابات الاعتدال والتطرّف. فإلى الحين، سيطر الاعتقاد بأنّ الأكثر تطرّفاً ضمن طائفته يمكنه أن يشدّ أزرها كطائفة لتصدّر المشهد اللبنانيّ، وكان هذا يؤدي إلى توالي المشاريع الهيمنية الفئوية وخيبتها المرتدة كارثياً على جماعاتها الأهلية الواحدة بعد الأخرى. وإذا كان المشروع الفئوي الماروني في سني الحرب الأهلية هو آخر من حاول الجمع بين التصلّب داخل الطائفة وبين تصدّر سباق الطوائف وبين التمسّك بالفكرة اللبنانية في الوقت نفسه، فإن المشاريع الهيمنية الفئوية التالية له، وخصوصاً المشروع الفئوي الشيعي مع "حزب الله" و"حركة أمل"، لم تستطع إلا التضحية بالفكرة الكيانية اللبنانية، بعد أن تركت انطباعات وهمية بعد تحرير الجنوب عام ألفين في أنها بصدد محاولة وراثة هذه الفكرة أيضاً.
في المقابل، يستعيد الرئيس الحريري في مقابلته الأخيرة روحية الفكرة الكيانية اللبنانية، من موقع التأطير الليبرالي للاعتدال داخل طائفته، ومن خلال تبني ليبرالية تشريعية تنسجم مع ليبراليتين اقتصادية وسياسية يتنباها تيّاره، ومع خيارات ثورة الأرز الائتلافية، وأدبياتها الميثاقية المتراكمة منذ سبع سنوات.
طبعاً، يبقى الكثير الذي ينبغي بلورته وإيضاحه في هذا الصدد، وتحديداً حول أهمية تخليص الفكرة الكيانية اللبنانية من مركزيتها، فإذا كانت المارونية السياسية ربطت هذه المركزية بجبل لبنان، ثم دخلت المارونية السياسية المأزومة لحظة الهجوم الحربي عليها، في باب المناداة بالفدرالية، فإن استئناف الفكرة الكيانية اللبنانية اليوم مرتبط بتجاوز المركزية، إلى حيث صيغة تتلاءم مع الإطار الجغرافي للتعددية اللبنانية.
ومن هذا الباب، قد نكون ننسى أن أهمّ ما أتى به "اتفاق الطائف" هو الربط بين إعادة النظر في التقسيمات الإدارية وبين سنّ قانون جديد للانتخاب، في حين أن ما يفتقر إليه كل النقاش الحالي حول قانون الانتخاب هو هذا الربط بين التعددية منظوراً لها في إطارها الجغرافي، وبين التعددية منظوراً لها بالأوزان الديموغرافية. من هنا، يمكن أن يعبّر لسان الحال النقديّ ضمن "ثورة الأرز" عن نفسه، بالقول: مزيد من الجهد لتخطي الصيغ المركزية المتقادمة إذا أردنا استئناف الصيغة الميثاقية اللبنانية بحيوية وإبداع.
وخلط الأوراق الثالث يتصل بالتحضيرات الانتخابية نفسها. في استعادة الحريري للروحية الكيانية اللبنانية بقالب مدني ناجز، ثمة بدايات إجابة على سؤال يتعلّق بعلّة خوض الانتخابات المقبلة. أو بمعنى آخر: لماذا يستطيع سعد الحريري أن يطلق موسمه الانتخابي بمفاجأة "غير شعبية" عند الوهلة الأولى؟ هذا سؤال مفتاحي. أول الإجابة: لأن الانتخابات لها أن تخاض بالليبرالية المحاربة على طول الخط. في الاقتصاد، في السياسة، في التشريعات، في الثقافة. في مقابل غلبة الحركات الاخوانية في انتخابات بلدان عدة، يجري التمسّك بالاعتدال الليبرالي كميزة تفاضلية.

السابق
عرسال ضدّ الجيش؟ فلنسأل عن السبب
التالي
نجيب ميقاتي زار ميونخ !!