ما هو موقف أميركا الحقيقي الآن من الازمة السورية؟

المتتبع للاداء الأميركي في الايام الاخيرة حيال الازمة السورية، يقف على سلسلة من السلوكيات المتناقضة الدلالات بشكل يختلط عليه الامر لتحديد حقيقة الموقف الأميركي:
فأميركا تدفع من جهة لاستكمال العمل العسكري الارهابي ضد سورية، وترفض اي نوع من انواع القبول بالعمل مع السلطة الشرعية القائمة في دمشق مصرّة على التغيير الجذري للنظام بنية واشخاصاً وسياسة، ودعما لهذا الخيار قامت أميركا بسلوكيات منها:
الاستعجال في انشاء «ائتلاف سوري معارض» اتخذته واشنطن بديلا عن «المجلس الوطني السوري» (مجل اسطنبول) وقد بدا بوضوح تقدم الاخوان المسلمين في الائتلاف الجديد رئاسة ونسبة تمثيل.
تقديم الائتلاف الوليد كممثّل شرعي للشعب السوري والاستحصال على اعتراف به بهذه الصفة من قبل الدول الدائرة في الفلك الأميركي (وهذا ما حصل في مراكش من قبل مؤتمر أميركا لاعداء سورية)
تشكيل «مجلس عسكري اعلى» لقيادة العمل المسلح ضد سورية وترجيح كفة الاخوان المسلمين فيه، مع استبعاد فئتين اساسيتين منه من المسلّحين: الاولى فئة اسمتها أميركا «الارهابيون « من جماعات القاعدة وفروعها والثانية فئة المسلحين الذين «يرتابون من الاخوان المسلمين ولا يتقبلون فكرة حكمهم لسورية».
إعادة النظر بالموقف العلني من تسليح الجماعات المعارضة في سورية، والتعهد بامدادها بالمال السلاح بشكل مباشر من أميركا وأوروبا.
السير قدما في عقد اجتماعات ما سمي مجموعة «اصدقاء الشعب السوري» وهي المحفل السياسي الذي يجمع كل من ارتضى السير مع أميركا في اسقاط سورية المقاومة ومن اجل اقامة الحكم البديل الموالي للغرب بالقيادة الأميركية.
القرار بنشر الناتو لصواريخ الباترويوت على الحدود مع سورية لاشعارها بأن الحل العسكري مستمر وان الاطلسي بات قريبا من الميدان مع جاهزية لدخوله.
حض الجماعات المسلحة على تكثيف عملها العسكري المناهض للنظام وحملها على تحقيق انجازات ميدانية جذرية عبره.
وفي المقلب الآخر نجد سلوكيات اميركية تناقض في دلالاتها السلوكيات المتقدمة الذكر وتوحي بان أميركا باتت مقتنعة بان الحل الممكن للازمة السورية هو الحل السياسي، الذي لا يستبعد أحداً ان امكن، او في الحد الادنى الذي تشارك فيه القوى السورية الرئيسية والتي يأتي في طليعتها الحكم القائم بشكل شرعي بقيادة الرئيس بشار الاسد الذي لم تستطع أميركا اسقاطه او اسقاط شرعيته، رغم كل ما قامت به خلال ما يقارب السنتين من مناورات واعتداءات وتحرشات. وفي سياق ذي دلاله على مسار الحل التفاوضي السلمي نسجل من السلوكيات الأميركية ما يلي:
الاجتماع الثلاثي الأخير الذي جمعها الى روسيا والمندوب الدولي الى سورية الاخضر الابراهيمي، والذي انتهى الى اتفاق حول الازمة السورية مضمونه بان الحل السلمي لازال ممكناً، وان السعي اليه لا يمكن ان يكون الا انطلاقا من إعلان جنيف.
الالتزام بتكليف الخبراء الروس والأميركيين بالاجتماع بحثاً عن آليات تنفيذية للحل السلمي.
تصنيف الجماعات المسلحة العاملة في سورية بين ارهابيّ لا يمكن لأميركا العمل معه او دعمه، ومعارض تدعمه أميركا، ثم اعتبار القوى المسلحة الاساسية والمؤثرة في الميدان السوري الآن (جبهة النصرة التابعة للقاعدة) جماعة ارهابية وملاحقتها عبر وضعها على لائحة الارهاب الأميركي.
تخفيض مستوى التمثيل الأميركي في مؤتمر «اعداء النظام السوري» (المسمى اصدقاء سورية)، وتغيب هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية عنه.
التراخي في تنفيذ القرار الاطلسي حول نشر صواريخ الباتريوت ثم اعادة النظر بمواقع نصب الصواريخ بعيدا عن الحدود مع سورية.
التراجع عن «اكذوبة التحضير السوري» لاستعمال الاسلحة الكيماوية، والقول بعدم وجود دليل قاطع على نيتها اللجوء الى هذا الاستعمال في القريب المنظور.
التأكيد الأميركي والغربي بشكل عام، وبطريقة علانية واضحة ان لا نية ولا قرار لدى الغرب بالتدخل العسكري الاجنبي في سورية.
ج. على ضوء هذه السلوكيات المتناقضة الدلالات والتي حدا بعضها لاثارة استغراب وزير خارجية روسيا واستهجانه خاصة عندما اعلنت أميركا اعترافها بالائتلاف المعارض ممثلا شرعيا للشعب السوري ودعت رئيسه لزيارة واشنطن، على ضوء ذلك تطرح الاسئلة حول حقيقة الموقف الأميركي، وما تريد أميركا فعلاً في سورية او بالاحرى ما هو المتاح لها والذي تستطيع القيام به هناك.
للاجابة على هذه الاسئلة لا بد من ان نذكر بثوابت اساسية ومفرزات انتجها العدوان على سورية والمستمر منذ نيف و21 شهرا حيث نذكر هنا ما يلي:
عجز أميركا وحلفائها وكل ما يمكن ان تحشده في الميدان، عجزهم عن اسقاط النظام السوري بالوسائل العسكرية، سواء في ذلك التدخل الاجنبي الذي بات ضربا من المستحيل، او بالحرب البديلة عن طريق الارهاب والاجرام الذي تنفذه الجماعات المسلحة التي رعتها ودربتها وسلحتها القوى التي تأتمر بالأمر الأميركي.
استنفاد الاهداف في «بنك التدمير الأميركي» بعد ان وصلت آلة القتل والتدمير الى كل ما يمكنها الوصول اليه خاصة في البنية الاقتصادية والاجتماعية السورية، اما ما بقي سالماً فهو في وضع من الحصانة والمناعة المركّبة ما يمنع استهدافه بشكل مؤثر.
ثبات الجيش السوري على مستوى فاعل من الوحدة والانضباط ، وقدرته على مواصلة القتال الدفاعي، ومنع المجموعات المسلحة من الاحتفاظ باي منطقة او موقع دخلت اليه.
تحوُّل حاد في المزاج الشعبي السوري ضد المسلحين والارهابيين، وصولا الى حمل بعض الفئات الشعبية السلاح دفاعا عن مناطقهم ضد هؤلاء « الغرباء «، ما يقود الى القول بصعوبة – ان لم نقل باستحالة استقرار الجماعات الارهابية في المناطق التي دخلتها او دخولها السهل الى مناطق جديدة.
د. انطلاقا من كل ما تقدم نستطيع ان نفهم او نتصور الموقف الأميركي حيال الازمة السورية، بانه موقف يقوم على العناصر التالية:
1) قناعة اميركية بأن النظام السوري مستمر في مواقعه مهما اشتدت آلة القتل في اجرامها، وان استمرار العمل المسلح لن يحقق الا مزيدا من القتل والدمار من دون تغيير في النتائج الاستراتيجية او السياسية.
2) عدم وجود ضمانات اميركية مستقبلية لاستمرار التحالفات والتكتلات القائمة الآن ضد سورية، خصوصاً اذا انتقلت النيران الى المحيط واالذي هو في معظمه مناطق نفوذ اميركي بدءا من الخليج وتركيا، وقد كان ملفتا موقف الامير طلال بن سلطان عندما صرح بأن السعودية هي الضحية التالية في « الربيع العربي المزعوم، او قول اوغلو في مراكش بالأمس ان الوضع السوري بات خطراً على دول الجوار. وبالتالي تعلم أميركا ان ما قد تحصل عليه بالتفاوض اليوم، قد لا تحصل على جزء منه ان تأخرت في الحل.
3) حاجة أميركا للاستمرار بالعمل مع الاخوان المسلمين بصفتهم الجهة المفضلة لديها، لانها ترفع شعارات اسلامية وتعمل بالاملاءات الأميركية وذات قاعدة وانتشار شعبي يمكنها من «تبليع» العرب والفلسطينين والمسلمين تصفية القضية الفلسطنية بالشروط الأميركية – الصهيونية.
ولهذا فإننا لا نرى في السلوكيات الأميركية المتقدمة الذكر تناقضاً، بل انها متكاملة المفاعيل سعيا لإرساء الحل المتاح لأميركا والذي لن يكون الوصول اليه متاحاً الا عبر التفاوض الذي يؤدي الى اقامة نظام سوري جديد يمتلك فيه الاخوان المسلمون قدرة مميّزة، ان لم تكن هي القدرة على القرار (وهو امر صعب نظرا لعدم امتلاكهم الاكثرية الشعبية التي تمكنهم من الاستيلاء على الحكم عبر صناديق الاقتراع) فعلى الاقل تمكنهم في مرحلة اولى من حق الفيتو وتعطيل اي قرار سوري مستقبلي لا يكون منسجما مع المصلحة الأميركية، ولأجل ذلك كان الائتلاف المعارض اخوانيا، وكان المجلس العسكري الأعلى اخوانياً لانهما بالنظر الأميركي سيكونان الجهة المقابلة للنظام التي تتقاسم السلطة معه ان لم تستطع حاضرا الاستئثار بها.
اذن وبكل بساطة نرى ان الحل الذي تريده أميركا عبر التفاوض هو حل يقفز فوق الارادة الشعبية السورية بعيدا عن حكم الاكثرية وديمقراطيتها، ويكون حلاً توافقياً يحفظ لـ»جماعة الاخوان» الموقع في السلطة والقرار حتى وإن جاءت صناديق الاقتراع بغير ذلك. ولأجل ذلك ستواصل أميركا الضغط السياسي والعمل العسكري الاجرامي خلال مهلة حددت سقفها، كما يبدو حتى الربيع المقبل والا تكون إعادة نظر وتخفيض للسقف.  

السابق
معركة دمشق في توقعات حريرية
التالي
وقت للتأمل بعد 50 ألف قتيل!