لديكم طائرات هليكوبتر ولدينا حمام زاجل

مجدّداً هي فلسطين. تكاد أخبارها لا تتوقّف. في العشرين من الشهر الماضي، قطعت سفينة اسمها "ايستيل" أشواطاً طويلة للوصول إلى غزة وكسر حصارها. لم تُثر الضجّة التي تلائم مبادرة كهذه. تعامل الجميع معها كأيّ خبر يوميّ. أصلاً، باتت البرودة والرخاء سمتي التعامل مع أخبار هذه الدولة.
"ايستيل" أبحرت، فاعترضت طريقها الزوارق الإسرائيلية. حاول الناشطون الاستمرار في رحلتهم، لكن السيناريو المتوقع كان أقوى: انتهت الرحلة واقتيد الناشطون إلى أسدود، قبل إعادتهم إلى بلادهم.
للسيناريو وجه آخر: لم تصل المساعدات إلى أهالي غزة. لكنّ رسالة ما وصلت. بضع حمامات حلّقت فوق فلسطين حاملةً رسائلها الصغيرة "فلسطين حرّة".
فيديو من ست عشرة دقيقة صوّر تفاصيل كثيرة. تفاصيل اختار المنظمون لها أن تخرج إلى العلن. يبدأ التصوير من اللحظات الأولى لإبحار السفينة، وصولاً إلى دقائق ما قبل اقتحامها من القوات الإسرائيلية.
تجول الكاميرا بين منتظري "ايستيل" عند أكثر من مرفأ. حركة عيون غريبة مترافقة مع رفع أعلام. هنا يحمل العلم الفلسطيني طعماً آخر. تقف سيدة مسنة في مرفأ إيطالي، بحقيبة ظهرها الخضراء، وترفع العلم الذي بين يديها عالياً. لا تريد شيئاً. كلّ ما تنشده هو إيصال المساعدات وتحقيق كسر رمزيّ لحصار غزة. هذه المرأة لا تنتظر شيئاً، لا جنّة في حياة ثانية ولا غاية ماديّة. كلّ ما حملها مع بسمتها وأغراضها إلى هذه النقطة هو موقفٌ واضح. في تلك الأرض لا بدّ من مناصرة شعب مظلوم ومحاصر. بإنسانيّتها تتألّق مع كثيرين، من دون اكتراث بأغلبيّة تختلف عنها وتعارضها.
بأغنية "طالع فجرك يا فلسطين"، يبدأ سرد التفاصيل في الفيديو. وعدٌ بالتحرير في سياق موسيقيّ ثوريّ. خريطة ترسم مسار الرحلة. يظهر أنّ خطوطاً طويلة قطعتها السفينة. اضطرّ الناشطون للتوقّف عند أكثر من مكان للتمويه و"تضييع البوصلة". يشرح القيّمون أنّ الحاجة للالتفاف كانت ضروريّة. وهكذا فعلوا. توزّع الناشطون بين أكثر من قارب. وطُعّم العمل ببعض أسماء وهميّة. استمرّ التصوير ليلاً. ما حُمل من أغراض ومياه وحاجات أساسيّة، ظهر بدوره. اجتماع التنسيق داخل السفينة، كانت له حصّته. خرائط كثيرة تكوّمت قرب المجتمعين، مساعدة على اتخاذ القرارات.
في الرحلة حمامٌ زاجل. هذا ما يظهر في أكثر من لقطة. عند أحد المرافئ، انتقلت حمامة مع قفصها لتكون جزءاً من الحمولة. عند الوصول إلى المياه الإقليمية، وبعد أن التقى الناشطون داخل "ايستيل"، ظهرت أعداد أكبر من الحمام.
تفرّغ كل من الناشطين لكتابة عبارة. وما بين "فلسطين حرّة" و"نهاية حصار غزة".. وُضعت قصاصات ورقية داخل قالب بلاستيكيّ. في المرحلة الثانية، كانت العودة إلى العصور الماضية: الحمام الزاجل. عُلّقت الأوراق في أرجل الحمام وطارت نحو غزّة. ربّما لم يكن الناشطون على ثقة من إمكانية كسر الحصار فعليّاً. ارتأوا المحاولة جوّاً. فكان خيار الحمام المحمّل بالأماني.
ربما تكون إحدى الحمامات هي من نقلت هذه الصور. حتى اللحظات الأخيرة، بقي التصوير ممكناً. ومن المعروف أنّ مجرّد دخول الإسرائيليين إلى السفينة، يعني الاستيلاء على كلّ ما هو على متنها. لكنّ معاندة الجيش الإسرائيلي عبر مكبر الصوت، وصلت إلى العالم. السفينة محاصرة، الجنود يطلبون التوقّف، طائرة هليكوبتر تحلّق في الأجواء، بينما يصرخ أحد الناشطين بحزم. يريد الرجل كسر الحصار. يلتفت إلى الكاميرا ثمّ يكمل حديثه الطويل. جملة وحيدة تتردّد أكثر من مرّة: أنتم لديكم طائرات هليكوبتر، ونحن لدينا حمام سلام.
كانت العبارة كفيلة بتحقيق مهمتها: خداع الإسرائيليين، كي يتمكن الحمام الزاجل من حمل رسائل الناشطين إلى كل العالم.
ما نشرته الحملة على "يوتيوب" جزء من عمل كثيف. شغف الناشطين واضح. الطبخ والأكل والتجمّع والأحاديث، كلّه موجود في الفيلم.
يردّد كثيرون: لا قيمة لهذه التحرّكات، لا أثر فعليّاً لها على فلسطين، لم تكسر الحصار ولم تحقّق مرادها الأساسي، ما الفائدة العملية المرتدة على هذا الشعب..
ليس صحيحاً. هؤلاء الناشطون، ومن بينهم برلمانيون أوروبيون، حملوا أنفسهم في محاولة لكسر حصار شعب. يكفي شعورنا بإمكانية استعادة أرضنا. تكفي عيوننا التي شخصت من جديد إلى هناك.

السابق
حزب الله لن يعطي 14 آذار ما تعجز عن أخذه
التالي
قائمة أغنى 200 ملياردير: الامير الوليد الأول عربيا وكاروس عالميا