بأيّ حال عدتَ يا وعد بلفور؟

كنت أعمل في جريدة «الرأي العام» الكويتية، عندما سألني مذيع تلفزيوني في مثل هذا اليوم من العام 1978، عمّا إذا كنّا اليوم في حالة وعي وطنيّ أفضل أو أسوأ من قبل، وكان يريد جواباً بكلمة واحدة: أفضل أو أسوأ! اعتذرت، فقبل منّي الاستفاضة. قلت له، سأشرح وجهة نظري ولك بعد ذلك أن تختار، وخيارك سيكون صحيحاً وأنا أقبل به وأوافق عليه سلفاً .

في الماضي، وتحت الاستعمار الفرنسي في الشام ولبنان والاستعمار البريطاني في فلسطين والأردن والعراق، كنا نهتف للعروبة، وكان لنا عدوّ واحد يتمثل في الانتداب، أي الاحتلال الأجنبي، وفي العدوّ اليهودي، أمّا اليوم، فنحن موزّعون إقليمياً، بين فلسطينيّ ولبنانيّ وسوريّ وأردنيّ وعراقيّ، ونحن متفرّقون بين أحزاب وتجمّعات، حتى الفلسطينيّ لم يعد فلسطينياً، بل فتحاوياً أو من الجبهة الشعبية أو الجبهة العربية أو من جبهة النضال أو….أو… إلى التنظيم الأخير في التنظيمات الفلسطينية الـ28 وقتذاك. كذلك الأمر مع اللبنانيّ والسوريّ والأردنيّ والعراقيّ. نسينا العدوّ الأوّل، وبات عدوّنا داخليّ، ولم نعد نهتف لفلسطين بل لفتح أو للجبهة الشعبية، لهذا الحزب أو ذاك، لهذا التيار أو لغيره… فهل تعتقد يا سيدي أنّنا اليوم أفضل أم أسوأ؟ أترك لك الجواب .

قبل ذلك التاريخ، وقبل الاغتصاب اليهودي لأرض فلسطين، هل كان الحال أفضل؟ ألم يكن الفلسطينيون منقسمين بين مجلسي تابع للحاج أمين الحسيني، ونشاشيبي من جماعة راغب بك وفخري بك النشاشيبي. ثم بين أحزاب وشخصيات مستقلة ومنفردة مثل جماعة الشيخ أسعد الشقيري وغيره؟ عشرات الأحزاب الفلسطينية كانت تتصارع في ما بينها، بينما كان اليهود يعملون ليلاً نهاراً في تمزيقنا وتشتيت جهدنا .

نعم، ما أشبه اليوم بالبارحة!

تمرّ ذكرى الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) ـ ذكرى وعد بلفور ـ كأيّ يوم عاديّ، من دون أن يرفّ جفن «الزعامات» العربية كلّها والفلسطينية خاصة، ومن دون أن يخالجها شعور بضرورة مراجعة المسيرة، وتعديل الانحراف الحاصل الذي أبعد الجميع تقريباً عمّا كان الهدف الأوّل ـ تمزيق كلّ نتائج وعد بلفور وإحباطها وإفشال كلّ المخططات الناجمة عنه .

طرح أنطون سعاده على نفسه، بعد أن حدّد الأمّة، سؤالاً أساسياً: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟». لاعتماده منطقي العلم والتاريخ، توصّل إلى الإجابة الصحيحة، فكان الحزب الذي يقول في صلب عقيدته، إنّ فلسطين هي سورية الجنوبية، وإنّها بوصلة الصراع مع العدوّ، أيّاً كان هذا العدوّ، من دون أن ننسى أو نتناسى ما قاله وخطط له حين أكّد أن يهود الداخل هم أشد خطراً على قضيتنا من يهود الخارج، وليس بالضرورة أن يكون يهود الداخل ممن يدينون باليهودية، بل أنّ أخلاقهم وسلوكهم ومطامعهم وتوجّهاتهم هي أخلاق وسلوك ومطامع وتوجّهات تخدم أعداء أمّتنا.

ظهرت آخر هذه الأطماع يوم أمس، حين أعلنت وسائل الإعلام المغرضة أنّ المسلحين في سورية بدأوا يسلّحون فريقا فلسطينياً في مخيم اليرموك ضدّ فريق فلسطينيّ داخل المخيم، لتكون لهم الغلبة والسيطرة، وبالتالي تلميحها إلى زجّ الفلسطينيين في نزاع شاميّ داخليّ لن يعود على فلسطين والفلسطينيين بأيّ مكاسب أو خير لقضيتهم، بل ببعض المال ووجاهة بعض من لم تحرّكه المأساة بعد .

بين مجلسي ونشاشيبي في الماضي البعيد، وبين فتحاوي وجبهة شعبية في الماضي القريب، وبين مؤيد للنظام أو مؤيّد للأعمال المسلّحة في الشام، في الوقت الراهن، تنحرف بوصلة القضية وتمرّ ذكرى وعد بلفور كما تمرّ غمامة صيف لا تترك أثراً ولا تزخّ مطراً حتى على صحراء .

تمرّ اليوم ذكرى «وعد بلفور» المشؤوم والأمّة في أسوأ حال. ممزّقة، ومشرذمة بين سياسيين ورجال أعمال وتجّار لا يفهمون من قضية فلسطين سوى أنّها درب وجاهة أو خطب عنترية.

البناء المتين الذي تستحقه فلسطين لا يقوم إلاّ على أسس صحيحة تَفرِز التهوّر عن العمل المنهجيّ، وتستند إلى قواعد العمل الوطنيّ المنظّم وأخلاقه، البناء البعيد عن الفوضى والعموميات.

تُرى! هل نستطيع أن نستشفّ اليوم كيف ستكون ذكرى وعد بلفور المقبلة؟ خطوة إلى الأمام على الدرب الصحيحة، أم إلى مزيد من الضياع والفوضى والانهيار؟

لا يمكن لأمّة تريد الحياة إلاّ السير على درب الحياة، والدرب واضحة لعقل يفكّر وضمير يقود.

السابق
نحن وأميركا وتشومسكي
التالي
حكومة؟! علي نون