لشيعة بين التمايز والإندماج

نحن نؤمن ونعمل لكي لا يكون للشيعة، ولا يجوز أن يكون لهم، مشروع خاص بهم. الشيعة في لبنان والعالم العربي هم جزء من المشروع الوطني العام لبلدانهم ولأمتهم، مشروع الدولة والمجتمع الواحد، وليس لديهم أيّ وهم في مشروع خاص، كما أنّهم لا يتحمّلون مسؤولية أيّ مشروع خاص.
أمّا على صعيد التمذهب الخاص، فالتمايز موجود، وهو تمايز ثقافي. وهو تمايز مبرّر، ندعو إلى حفظه وتطويره، لكن على أساس عدم إنشاء الشيعة نظام مصالح خاصاً بهم داخل الوطن. فنحن نقول بكسر هذا النظام من المصالح، وأن يستبدل بنظام مصالح وطني، اقتصادي سياسي تنظيمي، ويبقى التنوّع الثقافي.

ليس المطلوب اليوم إظهار تشيّع الشيعة… فهذا ظاهر إلى درجة الوجع… المطلوب أن يكون الشيعة مندمجين ومقبولين من مجتمعهم بشكل كامل… لأنّه ليس المطلوب إحداث فتنة في المجتمع، بل من المحرّم إحداث فتنة في المجتمع… من هنا فإنّ الحوار والهدنة الداخلية هما الطريق الصحيح… وفي اعتقادنا فإنّه إذا كان من رجاء في أن تحقّق مكاسب للشيعة من العالم، فهي من هذا الطريق، طريق الاندماج وليس طريق الانكفاء والسلبية الكاملة، وليس طريق الحالة الهجومية والانتصارية.

وبعد اتّفاق الطائف لم يعد هناك مبرّر لادّعاء أو لشكوى الحرمان لدى الشيعة أو لدى غير الشيعة… فالمسألة من الناحية السياسية والمشاركة في صنع القرار السياسي والقرار الاقتصادي والقرار الإداري هي من حيث المبدأ في الصيغة الأفضل لما يمكن أن يوجد… وكلّ اللبنانيين، سواء أكانوا شيعة أو غير شيعة، عليهم أن يلتزموا بمشروع الدولة، ولا يوجد بديل من مشروع الدولة… إنّ أيّ طائفة في لبنان لا يمكن أن تنجز مشروعاً خاصّاً بها، وأيّ طائفة تريد أن تنجز مشروعاً خاصّاً بها ستخلق حالة دمار شامل ولن ينجح هذا المشروع… وفي هذه المرحلة فإنّ منطق أقلّية وأكثرية في لبنان بالمعنى الطائفي لا يجوز استخدامه ولا يمكن استخدامه… والشيعة ينبغي أن يكون مشروعهم مشروع الدولة الوطني، ولا يفيدهم في شيء أن يكون لهم مشروع خاصّ بهم.

وهنا نتوقّف عند ظاهرة المقاومة التي يريدون جعلها ظاهرة شيعية خارج إطار الوطن والناس، ويريدون استغلال منجزاتها في حمى صراعات الغلبة الداخلية وتجييش الشيعة ضدّ شركائهم في الوطن…

في 25 أيار 2000 تحقّق في جنوب لبنان ما كان العرب يحلمون بتحقيقه منذ عام 1917، وما خسروه حين تمّ الغدر بتضحيات وبطولات أجيال وأجيال من الكادحين الفقراء ومن الجنود والثوّار، منذ ثورة 1936، وحرب 1948، وحرب العدوان الثلاثي 1956، وحتى نكسة حزيران 1967، ثمّ حرب تشرين الرائعة 1973، ومعركة جنوب لبنان 1978، ومعركة بيروت الخالدة 1982… لقد انهزم العدوّ الأسطوري الذي لا يقهر… انهزم هزيمة تامّة لم يستطع معها إحداث "دفرسوار" ما.. وكانت معركة الجنوب "كرامة" طويلة الأمد أكّدت من جديد أنّ العدوّ قويّ حين لا تقاتله، وأنّه أكثر من جبان حين تتوافر الإرادة والعزيمة والقيادة والوحدة والصمود، وحين تتمّ الاستفادة من كلّ عناصر القوّة في الأمّة ومن كلّ نقاط الضعف عند العدوّ وفي النظام العالمي الجديد.

لم يكن الانتصار في جنوب لبنان انتصاراً للإيمان والعقيدة فحسب، وهو لم يكن ثمرة للتخطيط والتدريب والتعبئة والحشد والحماسة والتضحية فقط، بل كان مع ذلك كلّه وفوق ذلك كلّه انتصاراً للتقدير السليم للموقف وللاستراتيجية الواضحة وللتكتيكات الناجحة في إدارة الحرب، ولنوعيّة السياسات المتّبعة من انفتاح وتضامن وتفاعل مع المجتمع اللبناني ومع الأمّة العربية، ومن حسن استفادة من الظروف الدولية والإقليمية وحسن توظيفها لمصلحة الحرب الشعبية الطويلة الأمد…

ولم يكن الانتصار ليتحقّق لولا الوحدة الوطنية اللبنانية الرائعة التي التفّت حول المقاومة وتجسّدت في إجماع وطنيّ شامل عبَّر عنه اتّفاق الطائف (1989)، وكرّسته القمّة الروحية الجامعة الشاملة في بكركي (2 آب 1993) كما الموقف الرسمي للدولة اللبنانية (من خلال البيانات الوزارية منذ 1992)، ما شكّل الحضن الدافئ والحصن المنيع للمقاومة.

إنّ حقيقة السلم الأهلي والوحدة الوطنية على قاعدة التعددية السياسية والتوافق الديمقراطي والحوار الدائم كانت هي أساس الصمود لتحقيق النصر… وهذا هو الدرس الأبلغ لكلّ دعاة الممانعة: لا مقاومة ولا ممانعة من غير حرّية وعدالة وكرامة وديمقراطية. إنّ إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية ولقيم الحرّية والعدالة ولمبادئ الديمقراطية هي كلمة السرّ في انتصار 25 أيار… وهي كلمة السرّ في نهضة الشعوب العربية التي ما كانت لتكون ممكنة لولا انتصار الجنوب 2000.

ولكنّنا نسارع هنا إلى القول بأنّه ليس الانتصار على العدوّ الخارجي المحتل منقذاً من الضلال بحدّ ذاته. فكم من شعب ثار وانتصر بعد قتال أسطوري، وبعد ملايين الشهداء والتضحيات… ثمّ انهارت التجربة وسيطر عليها الدم والمال وشهوة الجاه والسلطة وروح الاستئثار والاستحواذ… من جزائر المليون شهيد إلى فيتنام وكمبوديا… ومن أنغولا وكوبا إلى إيران والسودان… إنتحرت الثورات وماتت الانتصارات تحت وطأة الاستبداد الداخلي والفساد وسياسات القمع والتخوين والتدمير… والحال أنّ المعيار الحاكم يكمن في الانتصار على الذات، وفي الانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: الجهاد السلمي في البناء والتنمية والإعمار وفي العدالة والديمقراطية والوحدة الوطنية… وقبل أيّ شيء: تحقيق كرامة الإنسان وحرّيته.  

السابق
متى يستيقظ السوريّون على دمويّتهم؟
التالي
تجميد الخلاف