في النسبية الشاملة

النقاش في شأن قانون الانتخابات الذي بدأ في داخل اللجان النيابية المشتركة كتتمة للنزاع المفتوح بين قوى 8 و14 آذار في شأن معظم القضايا السياسية وغير السياسية، الكبيرة والصغيرة، هو في ختامِه وقمّته نزاع على المصير الوطني، بقدر ما هو تسابق للإمساك بالسلطة.
في مواقف أهل الممانعة الأسدية من ذلك النقاش، تحريف مبدئي مقصود ومألوف: يتحدثون عن قانون للانتخابات ويقصدون قوننة إقصاء الآخرين. وإتمام عدّة الإمساك بالسلطة بإطار شرعي بعد الاطار الشارعي.. وتفاصيل مشروع النسبية كما عناوينه ليست أكثر من محاولة لغوية متذاكية لإسباغ اطار قانوني على فكرة مبدئية تقول بإلغاء القوى السيادية وضرب وجودها، وكسر أشواكها كلها، مجتمعة ومتفرّقة ومرّة واحدة ودائمة إذا أمكن.

لعبة الانتخابات في عُرف أهل ذلك المسار واضحة ولا تحتمل التأويل والتطويل: تُستخدَم مرّة واحدة وأخيرة إذا تأمّن الفوز لهم. ويقفزون فوق نتائجها كأنّها ما كانت، إذا تأمّن الفوز لأخصامهم. وهذا سياق محصور في المناطق الملتبسة، أو المختلطة، مثل لبنان وغزّة. أمّا في غيرهما، كإيران مثلاً، فإنّ سقف هذه اللعبة تحدّده مواقع النظام وليس أدبيات تداول السلطة المنصوص عنها في دول الرفاه الديموقراطي، حتى لو اضطر الأمر إلى إبدال ملايين الأصوات بغيرها، كما حصل في الانتخابات الرئاسية عام 2009 بين أحمدي نجاد ومير حسين موسوي.

معضلة اللاعبين الآخرين تكمن في أخذهم الأمر بجدّية لافتة، والرهان على التغيير السلمي الديموقراطي لواقع لا يطيقونه. فيما أصحاب ذلك الواقع يتصرّفون على أساس أنّ صندوق الاقتراع هو جزء من ديكور لمبنى السلطة وليس مقرّراً لمصيرها ولا واضعاً لأساساتها. ومَن لا يرضى بذلك، مثلما فعل أهل "الثورة الخضراء" سيجابَه بقمع هستيري وبتسريب أنباء عن "الاستعداد للدفاع عن الثورة حتى لو كلّف الأمر مليون قتيل"!

غير انّ وضعنا في لبنان مختلف عن غيرنا.. عن إيران حُكماً وعن غزّة مثلاً. حيث أنّ النسيج الوطني الفلسطيني "مجعلك" سياسياً وتنظيمياً وفكرياً وليس طائفياً ومذهبياً. وتستطيع "حماس" تبعاً لذلك أن تقصي "فتح" وغيرها بواسطة صندوق الاقتراع وأن ترمي المفتاح في البحر ثم أن تُبقي على الواقع الجديد بقوّة صندوق الذخائر.

.. في لبنان لم نصل إلى تلك المرتبة تماماً رغم طموح الممانعين. بل وصلنا إلى ما دون ذلك. أي إلى إلغاء نتائج الانتخابات عملياً وشارعياً وحكومياً. أما الوصول إلى نقطة النقاء في السيطرة ودمج صندوقَي الذخائر والأصوات في اطار شرعي واحد، فدونه أمور كثيرة وكبيرة وخطيرة ولا قدرة لأحد عليها، إلاّ إذا قرّر صاحب السلاح أن يجرّب الاحتكام إليه من جديد!
.. يتسلّى الممانعون باللبنانيين. جرّبوا ويجرّبون كل شيء لإلغاء وإقصاء وإنهاء الواقفين سدّاً في وجه مشروعهم الاستحواذي، ولم يحصدوا النتيجة المتوخاة. لا صندوق الانتخابات في مرتين متتاليتين أوصلهم إلى ذلك، ولا الممارسات الآتية من الصندوق الآخر نجحت أيضاً.. يجرّبون اليوم بواسطة النسبية، غير منتبهين إلى أنّ كل شيء في لبنان نسبي بما فيه قدرتهم على الإلغاء والإقصاء، وأخذنا في النتيجة إلى التماهي مع مثالهم الأعلى الممتدة ظواهره من دمشق إلى طهران! وبئس التجربة!
  

السابق
واشنطن تصف مكافأة باكستان بالحقيرة
التالي
الحريري يشارك في مراسم دفن جدّته