ما سر صمود حكومة ميقاتي رغم هجمات الخصوم

قبل فترة وجيزة كان رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي وحكومته في حال لا يحسدان عليها، اذ بدت كمركب في وسط الأنواء والعواصف وتوشك على الغرق.
وقد زادت الأحداث الأخيرة في طرابلس من حراجة وضع الحكومة ورئيسها على وجه التحديد لاسيما ان المدينة المشتعلة والمكلومة هي مدينته، ومدينة الوزراء المحسوبين عليه، وقد بدا في وضع القاصر عن القيام بفعل نوعي يخلّص عاصمة الشمال من براثن الفوضى التي تكاد تغرق فيها، ومن سطوة قادة المجموعات المسلحة الذين صاروا في موقع الآمر الناهي والذين اضطر الجيش الى التعامل معهم حصرياً لضبط الموقف والحيلولة دون المزيد من التدهور الامني، خصوصا بعدما تبدى سياسيو المدينة مغلولي الأيدي، إذ سرعان ما تضيع اتفاقاتهم لوقف النار.
ولكن العاصفة ما لبثت ان انجلت، وخرجت المدينة بقدرة قادر من جولة العنف الثالثة منذ اندلاع موجة الأحداث في الساحة السورية، ومعها عادت الحكومة ورئيسها ليستأنفا مسيرتهما.
تخلص القراءات العميقة لفريق 8 آذار للأسباب التي تؤدي الى انفجار الوضع في عاصمة الشمال، الى وجود 4 عوامل تكون بمثابة الصاعق الذي يشعل فتيل الاقتتال فيها. ومن بين هذه العوامل انها مدينة الرئيس ميقاتي، وان ثمة اعتقاداً كامناً لدى الجهة او الجهات التي تستدعي الاقتتال الى الزواريب والاحياء الطرابلسية، انه كلما لعلع الرصاص فيها كلما دنا موعد سقوط هذا الرجل وحكومته، وهو المطلب الذي ما كلفت قوى معروفة نفسها عناء اخفائه او التورية عليه، بل جعلته الشعار الذي تعود اليه وتبرزه كلما شاءت ان تثبت حضورها، او تحقن حراكها بمزيد من عوامل الشحن، او تعيد تقوية عصب فريقها وجمهورها، او عز عليها ايجاد شعار آخر ترفعه كمادة من مواد العمل والفعل اليومي.
ومع كل ذلك فان حكومة ميقاتي ظلت واقفة، تعيد نفسها الى الواجهة بعد كل عاصفة تمر بها ويخال خصومها ان نهايتها اوشكت وأوان تداعيها قد آن.
ولم يعد خافياً ان حكومة ميقاتي نفسها امضت اياماً واسابيع تعيش تحت وطأة ضربات جهات يفترض انها شريكة لها او انها واحدة من مكوناتها، فلائحة صراعات قوى الاكثرية الحاكمة التي هزّت الحكومة ووضعتها على صفيح ساخن، وجعلت مصيرها على المحك اكثر من ان تحصى، اذ باتت سمة لازمة لها منذ الأيام الاولى لانطلاقتها. وكثيرة هي ايضا المحطات التي اندلع فيها الخلاف والتباين بين بعض مكونات الحكومة وأفرقائها وبين الرئيس ميقاتي حتى ان مراحل انعدام الثقة بينهما كانت اكثر من مراحل الوئام والانسجام لاسيما ان ميقاتي صار محاصراً في احيان عدة بشبهة انه بدأ ينسج خيوطاً خفية وقنوات اتصال غير مرئية مع قوى في المعارضة توطئة لوضع اسس وتفاهمات لمرحلة ما بعد فرط ميقاتي لعقد الحكومة الحالية، اذ لم يمض زمن بعيد على المحطة التي شاع فيها حديث عن تفاهم ضمني بين ميقاتي وأحد ابرز رموز فريق المعارضة الرئيس فؤاد السنيورة فحواه الاتفاق الاولي على حكومة تكنوقراط تشرف على الانتخابات النيابية الموعودة يكون لميقاتي فيها شأن ودور.
وقد ازدادت هواجس قوى 8 آذار من اداء ميقاتي اثر الجولة الثانية من احداث الشمال وما قيل عن تفاهم نسج بين ميقاتي وبعض القوى والمجموعات السلفية.
ولم يمض ايضاً الزمن الذي سرت فيه كذلك معلومات تحدثت عن تفاهمات خفية اجراها طرفان من اطراف الأكثرية الحكومية تقضي بفرط الحكومة الحالية اثر اشارات أتت من بعض العواصم العربية التي تعتبر نفسها معنية بالوضع اللبناني، لا بل ان امر الانقلاب على هذه الحكومة والاتيان بسواها فوتح به حتى "حزب الله" نفسه.
ومع كل هذه التطورات الدراماتيكية والضغوط المتتالية صمدت حكومة ميقاتي، وظلت حاضرة في الميدان. ولا شك في ان بعض قوى 8 آذار وفي مقدمها "حزب الله" وحركة "امل"، لم يكتموا في الايام القليلة الماضية شعوراً بالارتياح الى فعل الصمود والاستمرار والى قوة أعصاب الرئيس ميقاتي وهو يواجه على اكثر من جبهة، ويخرج حكومته من لجة الأزمات والعواصف التي ارتفع منسوبها الى الحد الاقصى بعد اندلاع الأحداث في سوريا، وانفتاح جزء كبير من الداخل اللبناني على هذه الأحداث ومقاربتها والتعاطي معها وكأنها شأن داخلي تبنى على نتائجه الحسابات الداخلية وتحدد مصائر المعادلة الداخلية ومستقبلها.
ولعل فعل الصمود الذي أبداه ميقاتي ورفضه تقديم الحكومة "هدية" مجانية على طبق من ذهب الى الفريق الآخر، فضلاً عن صموده امام اغراءات عدة أتت من اكثر من جهة، بدد الكثير من الهواجس والحسابات الحذرة لدى فريق 8 آذار وجعله يعيد النظر بطريقة تعاطيه مع ميقاتي لجهة استئناف دعمه وتمكين حكومته.
ولا ريب ايضاً ان "صمود" ميقاتي وحكومته امام الهجمات والحملات المتكررة والشرسة لقوى 14 آذار والتي كانت احياناً كثيرة تبلغ بها الثقة بالنفس حد تحديد مواعيد للسقوط المدوي للحكومة قد دفع هذا الفريق لاسيما في الآونة الاخيرة الى اعادة النظر في سلوكها وادائها حيال حكومة ميقاتي الى درجة انها "جمدت" ان لم تكن سحبت شعار اسقاط الحكومة من خطابها السياسي، وان عادت اليه احيانا فمن باب رفع العتب واثبات الذات ليس الا.
وحيال ذلك، فان ثمة تساؤلات تسري عن سر قوة هذه الحكومة، وعن "كلمة السر" التي ترفدها بأسباب الصمود امام هجمات لا يستهان بشراستها من الخصوم بالدرجة الأولى من تناقضات وخلافات بل وصراعات المشاركين فيها في آن واحد.
بالطبع تتعدد الاجابات والتفسيرات والرؤى. ولا ريب ان ثمة في قوى الاكثرية قراءة يعدها اصحابها قراءة موضوعية فحواها صحيح ان حكومة ميقاتي كانت في بداية عهدها حكومة الاكثرية واستطراداً صاحبة الخيارات الاستراتيجية الحادة بالمعنى السياسي للمصطلح، لكن التطورات في المحيط، وفي الساحة الداخلية جردتها من صفة حكومة الأكثرية بخياراتها المعروفة، وصارت حكومة امر واقع او الحكومة التي نالت رضا الغرب الذي وجد في شعارها "النأي بالنفس" من الحدث السوري وصفة نموذجية لامرار ما يريده من سوريا عبر لبنان تحت هذه المظلة.
وفي المقابل وجد الرئيس ميقاتي في هذه المظلة الغربية حماية ودعماً كان يبحث عنهما ضمناً لكي يتحرر هو بالذات من امر كان يعتبره كثيرون "عبئاً ونقيصة" تتأتيان من صفة لازمت الحكومة في مستهل حياتها عندما وصفتها عواصم الغرب عموماً بأنها حكومة "حزب الله" وحكومة سوريا وما الى ذلك من صفات ووصفات ساهمت قوى 14 آذار في ايجادها لتبرير هجماتها الموصولة على هذه الحكومة والنيل منها.
ولا شك في ان التحولات والتطورات المتسارعة في سوريا وفي المنطقة عموماً قد اوجدت لحكومة ميقاتي وظيفة جديدة ودوراً مختلفاً، اذ صارت ايضاً واضافة الى كونها تمثل بالمعنى الاستراتيجي خيارات الاكثرية، تقاطعاً اميركياً – ايرانياً – سورياً، تحاكي النموذج الذي تضطلع به حكومة نوري المالكي في العراق، وهو واقع يزيد من قوتها ومتانتها، ويحول دون اسقاطها، رغم ان كثيرين يخيل اليهم ان الامر وشيك.
وليس خافياً في اوساط قوى 8 آذار ان هذا الواقع السياسي الذي يشكل الحاضن لهذه الحكومة هو من الأسباب الأساسية التي ادت الى عدم نجاح المسعى الجدي لبعض العواصم الخليجية لاسقاط الحكومة الحالية والذي وصل الى درجة تحديد تواريخ وسيناريوات معينة بغية الاتيان بحكومة جديدة.  

السابق
نحن وإسرائيل اليوم
التالي
شبح التفجير يختبئ وراء التوتير السياسي