جنوح خارج السيطرة

صباحاً، الاستماع الى نشرة الأخبار صار ضرورياً. لا يهم أن تشتم المحطة والمذيع وناقل الخبر نفسه. لكنك مضطر إلى أن تستمع الى قناتين أو أكثر للتأكد من أن الخبر العاجل الذي قفز في وجهك قبل قليل ليس خبراً لقيطاً أو غير دقيق. أصلاً، لا يهتم الإعلام بالدقة في هذه الحالة، باعتبار أنه يعطي نفسه الحق من بث خبر آخر بعد ثوان أو دقائق. وهو لا يهتم بأن يوضح أو يستوضح أو أن ينتظر قليلاً، لأن منافسه لن يقوم بذلك، وسوف يغدر به ويبثّ الخبر قبله. لكن، هل يتخيّل صاحب مسؤوليّة في واحدة من قنوات الموت هذه لو أنه مكان المتلقي وقد قرأ شريطاً عاجلاً يقول: «أطلق مسلّح من الطائفة الفلانية النار على المدعو كذا كذا من الطائفة الفلانية، وأفادت معلومات غير مؤكدة (انتبهوا الى عبارة غير مؤكدة) بأنه مات متأثراً بجروحه»…

مشكلة الذي بث الخبر أنه يريد المزيد للمتابعة. لكنه لا يتنبّه إلى أنه قد يحصل أن شقيق أو زوج أو ابن من ورد اسمه «مقتولاً ولو كانت المعلومة غير مؤكدة»، أن المشاعر والانفعالات لا تنتظر التثبت، ويحصل غالباً أنها تنتج ردود فعل تؤدي الى نتائج أقسى. فتكون النتيجة أن قريب من بُثّ خبر غير مؤكد عن مقتله، قد بادر الى قتل إنسان آخر انتقاماً. وبالتالي تصبح الجريمة الثانية هي الخبر المؤكد الذي تبثه القناة نفسها، مفتخرة بأنها كانت تعرف بأنه سيحصل، ولذلك بثّت قبلاً خبرها غير المؤكد. ولا بأس هنا أن تعيد القناة نفسها بث الخبر الأول، مع توضيح أنه «تأكد لنا أن الذي تعرض لإطلاق النار لا يزال على قيد الحياة»!

ما الذي ينتظره اللبنانيون بعد للتأكد من دخولهم مجدداً نفق الحرب الأهلية. العادات والسلوكيات عادت الى الظهور. طرقات يمتنعون عن سلوكها. أماكن ليس من ضرورة لزيارتها أو استكشافها. أشخاص يجب التثبت من هويتهم الكاملة قبل تكليفهم عملاً، مهما كان بسيطاً. أشغال غير قابلة للتوسع بانتظار استقرار ما. سكن ثابت في مكان أقرب الى الأمان الاجتماعي المتصل بالمنطقة أو الطائفة أو المذهب أو العشيرة. أبناء يفضلون أن يقضوا أوقات فراغهم في المنزل أو لدى أقرباء موثوقين. استنفار وهواتف شغالة طوال الوقت للتأكد من مكان وجود الزوج أو الزوجة أو الابن أو الابنة. انتقال لا جدوى منه من مكان عمل الى آخر، والتمسك بما هو في اليد من وظيفة ودخل. التخلي عن ملاحظات أو شكاوى من هذا الرئيس في العمل أو هذا الجار بحثاً عن مصادر طمأنينة أفضل. لا داعي لأكثر من الدعاء إذا رأيت رجل أمن في الحي، أو شرطي سير لا يزال يحضر الى مكان عمله كل يوم. لا بأس من الاكتفاء بشتم الدولة أو وزير الكهرباء. وكل الأمل بأن لا يخرب المولد في الحي، حتى لو رفع سعره الى ثلاثة أضعاف.

أمس، انشغل الناس في تتبع أخبار طرابلس وفرصة الهدوء التي منحتها إياها أيادي المجانين الخارجين عن أي سيطرة. لكن الانشغال يقتصر على ترتيب الأمور لأن ساعة الجولة الجديدة من العنف آتية ولا ريب فيها. وبالتالي، على الناس إنجاز ما يمكن إنجازه والعودة سريعاً الى حيث يفترضون أنهم بمأمن عن رصاص الجنون الفالت من كل عقال. بينما لا يجرؤ سياسي أو أمني أو دبلوماسي أو رسمي أو مواطن عادي، على ادعاء توقع قابل للحياة لأكثر من ساعتين. فقواعد الفوضى القائمة الآن تتيح لامركزية شاملة على صعيد المبادرات الدموية. وأي جهاز أمني لديه الحد الأدنى من القدرات والإمكانات، يقدر على إشعال البلاد في طولها وعرضها، متسلحاً بدعم وترويج إعلامي مجاني ستقدمه له قنوات الموت. ومتكلاً على جيوش المستنفرين بغرائزهم ضد «الآخر» الذي يجب التخلص منه بأي ثمن. ويكفي أن يغضب «أزعر الحيّ» لأنه شاهد صوراً مؤثرة على شاشة أو سمع أخباراً لا تسرّه عما يجري في سوريا، حتى يعلن الحرب. وحتى يقرر أن «يفشّ خلقه تضامناً مع أنصاره في سوريا» بأن يضرب حيث يقيم «الآخر» ولو كان جاره منذ عشرات السنين. هل بمقدور أحد أن يشرح لنا كيف يتم إبلاغ عائلات بضرورة مغادرتها مكان إقامتها، لأن نوع طائفتها أو مذهبها لا يليق ببقية سكان الحي؟ ولو قررت هذه العائلات عدم الاستجابة لهذه التحذيرات، فهل بمقدور أحد أن يوفر لها الضمانة بأن تظل آمنة مستقرة، أم أنها ستضطر الى استنفار أو ابتداع أجنحة عسكرية تعتقد أنها ستقيها نار الجنون المتنقل؟

وفوق كل ذلك، تنشط الاجتماعات واللقاءات والاتصالات والبحث عن حلول مستدامة. لكن كل تشخيص ينتهي الى تحميل كل طرف آخر المسؤولية عما يجري. ومن ثم يظل الاحتقان في أوجه، ويكفي إشكال على موقف سيارة حتى يتحول الأمر الى انفجار يقتل ما يقتل ويجرح ما يجرح ويدمر ما يدمر. ثم يخرج محللون من جماعة المخابرات العالمية المنتشرون بكثرة في صحافة بيروت، ليشرعوا في الحديث عن المؤامرة الكبرى، وعن سعي الخارج الى تصدير أزمته الى لبنان، وكأن اللبنانيين أبرياء من دم الصديق؟
كلها علامات تدل على الحرب الأهلية الكبرى. لكن، ثمة جهد يحتاج اللبنانيون إلى بذله في تخيل صورة جديدة، قد لا تشبه ما خبرناه سابقاً، علماً بأن المشترك سيبقى هو ذاته: الموت المجانيّ!  

السابق
ربطة العنق التركية في حسابات حزب الله؟
التالي
الصداقات تحسن الصحة العقلية