عيد ميلاد الملك… موعد لاستحضار قوة الماضي وثقة المستقبل

قال جلالة الملك محمد السادس في خطاب افتتاح البرلمان: "والتزاما بمهامنا الدستورية, في ضمان حسن سير المؤسسات وصيانة الخيار الديمقراطي, فإننا حريصون على ان تعكس المؤسسات الجديدة, روح ومنطوق الدستور, وان تجسد طموحنا الجماعي في انبثاق هيئات نيابية وتنفيذية ناجعة عمادها برلمان قوي, معبر عن الارادة الشعبية الحرة, يمارس صلاحياته التشريعية الحصرية والرقابية الواسعة وينهض بدوره الفاعل في المجال الديبلوماسي خدمة للقضايا العادلة للأمة وفي طليعتها قضية وحدتنا الترابية, وقوامها حكومة فاعلة منبثقة عن اغلبية نيابية متضامنة ومنسجمة تنهض ورئيسها بكامل سلطتها التنفيذية وتتحمل مسؤولية وضع برنامجها وتطبيقه وبلورة اسبقياته في سياسات عمومية ناجعة ومتناسقة".
وتكفي نظرة تمحيصية للعبارات الملكية لنستشف جميعا ان محمد السادس عازم على مواصلة مسيرة تركيز دولة المؤسسات ذات المصداقية والهيئات القريبة من المواطن وليس تلك التي تحمل اسما على غير مسمى وتلك التي تنأى عن توجهات سياسات الاصلاح والتحديث التي لا رجعة فيها بعد ان اختطها جلالة الملك منذ اثنتي عشرة سنة وبعد ان قطع المغرب فيها اشواطا كبيرة.
ويكفي تتبع الانشطة الملكية لنستشف جميعا درجة المحبة التي يحملها هذا الملك لشعبه. فمحمد السادس انسان قبل ان يكون ملكا وحاجة الانسان للراحة من وقت لآخر من المسلمات الحيوية ولكن جلالته اختار بدلا عنها تكريس كل ايام اسبوعه للتنقل بين جهات ومناطق المملكة مفتتحا هنا هيئة اجتماعية داعمة لفئات الفقراء من شعبه, ومدشنا هناك مؤسسة من ماله الخاص لتحويل الدموع واليأس الى بهجة وتفاؤل.
واليوم والمغاربة قاطبة يعيشون فرحة عيد الشباب الذي يخلد هذه السنة الذكرى التاسعة والاربعين لميلاد جلالة الملك محمد السادس فلا بأس من ان اعود بكم الى الوراء لسنوات واستحضر معكم حدث القرن العشرين في المغرب الا وهو ميلاد ملك المنجزات محمد السادس. في صيف سنة 1963 كانت جنبات القصر الملكي بالرباط تنبض ببوادر حدث سعيد فقد كانت الاسرة الملكية في آخر لحظات انتظار حدث سعيد وتمنى الجميع ان يكون القادم السعيد ولدا ذكرا.
هذه العبارات ليست لي, ولكنها من الأديب الكبير والمثقف النادر صديقي واخي الراحل الدكتور عبدالهادي بوطالب.
لقد كان, رحمه الله, يجد متعة ما بعدها متعة عندما نجالس بعضنا بعضاً ويشرع في حكي ذكرياته لي مع افراد العائلة الملكية فقد كان رحمه الله يحبها حبا جما وبدوري كنت استفيد من معلوماته القيمة كثيرا.
وقد حكى لي كيف كان الراحل العظيم الحسن الثاني في حالة ترقب كبير وهو ينتظر الخبر السعيد وقال لي عبدالهادي: بمجرد ميلاد المولود ومعرفته بأنه كان ذكرا طار عبدالهادي طيرانا نحو جلالة الملك لتقديم "البشارة" لجلالته واكد لي أنه كان أول من زف له خبر ميلاد أمير في رحاب القصر العامر.
وسألته في نفس جلستنا كيف كان رد فعل جلالته وهو يتلقى ذلك الخبر السعيد? فقال لي: لقد تعودت من الحسن الثاني بانه كان يبقى هادئا في اي موقف ولكني عندما زففت له الخبر السار, ظهر عليه فورا سيل عازم من الابتهاج وقال لي بالحرف:" بسرعة يابوطالب بسرعة اذهب واذبح كبشا عظيما وتكلف بإجراءات عقيقة ولي عهدي". واستأنف قائلا: ثم توجه جلالته فورا نحو مستشفى القصر حيث كان الأمير الصغير يستنشق اولى نسمات الحياة في ذلك اليوم القائظ من صيف 1963 وتبعته نحو قاعة تم فيها اعداد المولود ليراه الملك ولاحظ الجميع ان الحسن الثاني بمجرد رؤيته لابنه انفرجت اساريره واخذ يلاعبه ويحرك قدميه الصغيرتين ذات اليمين وذات الشمال وهو في أولى ساعات حياته المديدة, ثم التفت الي قائلا: "اذهب الآن وقم بما أمرتك به", فطرت طيرانا الى باحة القصر حيث كان كبش الميلاد قد تم احضاره فأمسكت بالسكين العظيمة وذبحته مهللا ومكبرا, وكان ذلك الكبش والله يشهد على صدق كلامي اول وآخر كبش ذبحته في حياتي كلها.
وبعد سبع وثلاثين سنة اصبح الأمير ملكا بعد رحيل والده الحسن الثاني الى رحاب الله.
مسؤوليات كبيرة
لكن محمد السادس وقبل تولي الامانة العظيمة وقبل ان يصبح الملك الثالث والعشرين في السلالة العلوية, فقد سهر الراحل العظيم الحسن الثاني على جعله كاملا مكتملا ليتحمل المسؤوليات الجسام التي كانت تنتظره.
وهكذا رافقه منذ نعومة اظافره فريق عمل تاركا له – كما قال لي عبدالهادي بوطالب – فسحات مناسبة للعب واللهو الطفولي ولكن الوقت الاكبر كان يخصص لتربيته وتلقينه كل اسرار الحياة وجعل عقله يستوعب كل ما يليق بملك سيحكم المغرب ذات يوم.
وهكذا تقرر نظام حياة ولي عهد الحسن الثاني منذ بداية حياته فقضي ما بين 1973 و 1981 كل وقته تقريبا داخل اسوار "المدرسة المولوية" بمقررات مكثفة ونظام تربوي صارم واكد لي الراحل عبدالهادي ان الحسن الثاني كان يشرف بنفسه على مناهج التدريس بالمدرسة المولوية وكان يتكلف شخصيا باختيار المواد الأهم ليتلقى نجله ما يكفي من اطلاع ومعلومات وتكوين نظري وميداني داخل فصول المدرسة المولوية بكل طقوسها الصارمة ونظامها الاصيل, وكان يرافق ولي العهد داخلها مجموعة من التلاميذ الذين تم اختيارهم من كل جهات المملكة من خيرة اقران ملك المستقبل.
واليوم, والشعب المغربي يحتفل بعيد ميلاد هذا الملك العظيم فإنني استحضر عبارة قالها لي المرحوم عبدالهادي بوطالب في عيد الشباب لسنة ,2004 حيث قال لي وانا اجالسه كما كانت عادتي في صالون منزله: لقد حقق محمد السادس معادلة الدولة المسلحة بسلاح غير الذي تنفق فيه دول اخرى مليارات الدولارات مع معاناة شعوبها من الجوع مثل الجزائر, فالسلاح الذي اختاره محمد السادس هو المؤسسات المتمحورة حول المواطن ولا شيء سوى المواطن". وتكفي مراجعة عابرة لمنجزات المرحلة الماضية من حكم محمد السادس لنعرف جميعا معدل السرعة القصوى والطريقة المحكمة التي يسير بها عمل الملك.
والذي نعرفه جميعا هو انه لم تكتب حتى الآن سيرة عاهل المغرب لأن حصيلة الحكم لا تقدم الا في خاتمته, كما قال الملك محمد السادس نفسه, جوابا عن سؤال في هذا السياق ولكن الذي تجمع عليه كل الكتابات التي تمت كتابتها حول شخصية محمد السادس هو الاعجاب ليس العربي فقط بل الدولي بكل ورش الاصلاح التحديثية الكبرى التي اطلقها في البلاد والتي تعتبر علامة دالة على مغرب جديد آخر هو تتمة وتحيين للشعار المماثل الذي اطلقه الملك الراحل الحسن الثاني في منتصف السبعينات حينما قام بانعطافة سياسية كبرى قربته من احزاب المعارضة التي كانت تنشد اصلاحات دستورية استجاب لها الملك تدريجيا وجزئيا فيما بعد فمهدت الطريق لانتقال الملك بكيفية سلسة وهادئة من السلف الى الخلف, والمثير للاعجاب بجلالة الملك اكتمال سياساته وثقته التامة في اختياراته ومبادراته ففيما يتعلق بالمبادرات المقدامة, نذكر انه منذ اعتلائه للعرش فقد تقبل بكل موضوعية اعلان مراجعة وتصحيح اخطاء الماضي والدخول في "عهد جديد" يقطع مع كل الاساليب والادوات التي كانت تعتبر مقومات للمرحلة السابقة. وبالتالي كانت البداية بطي صفحة الماضي حول انتهاكات الحريات وحقوق الانسان وما ترتب عن ذلك من صدى ايجابي على المستوى الدولي. وقد احرز المغرب من وراء ذلك نقطا ايجابية في علاقاته مع الدول الكبرى, وجذب اعجاب وتقدير المنتظم الدولي برمته, كما ان هذه النقطة بالذات جعلت كل شرائح الشعب المغربي واعية كل الوعي بأن الملك يعمل لصالحها على حساب صحته ووقته وراحته ما فسر بعد اكثر من عشر سنوات على انطلاق محمد السادس ان المغرب اليوم هو بعيد كل البعد عما يسمى بالربيع العربي, لان الحقوق والترسانات القانونية التي جعلت شعوب بعض الدول العربية تثور ضد الديكتاتوريات عند المواطن المغربي منذ 30 يوليو .1999 ومن زاوية اخرى فقد تجلت روح الجرأة والمبادرة في ما يتصل بالقضية الأولى للمغرب, وهي ملف النزاع حول الصحراء وفي هذا الصدد يمكن ذكر طرح الملك مشروع الحكم الذاتي فاجأ الرأي العام الوطني والدولي.
وإن طرح مبادرة الحكم الذاتي في الاقاليم المغربية الجنوبية ينطوي على جرأة سياسية كبيرة تدخل ضمن مكونات خيارات محمد السادس الذي يقبل على التنفيذ بمجرد اقتناعه بالقرار لأنه يقدر قيمة الوقت وأهمية استغلال كل دقيقة من عمر التاريخ لتطوير بلده وحل معضلاته الكبرى. ان طرح الحكم الذاتي بالاقاليم الجنوبية كان خطوة جبارة من محمد السادس لان حل هذا النزاع المفتعل كان يسير في اتجاه آخر وهو الاستفتاء وتقرير المصير والتي اعتبرت حلولا جامدة ليس بمقدورها إن تسوي هذا الملف ولذلك فان مشروع الحكم الذاتي حرك المنتظم الاممي والفاعلين داخل الوطن, بل وحتى الطرف الآخر تفاعل على نحو ما مع روح المبادرة حتى وان لا يزال يتشبث بحل الاستفتاء وهذا التفاعل يتمثل في الجلوس الى المفاوضات على اساس هذا الطرح الجديد, وعلى ضوء كل ذلك فإن المؤسسة الملكية طرحت هذا المشروع من دون ان تتوافر على الضمانات الكافية لتحظى بقبول من لدن المنتظم الدولي, وارى كذلك ان طرح المبادرة للتشاور الوطني هو تحول جديد في ملف كان الى عهد قريب تتحكم فيه جهة رسمية وهي وزارة الداخلية.
من جهة اخرى, فقد التفت الملك العادل محمد السادس الى نقطة طالما اسالت مذاذ المعلقين وهي تطوير الاقاليم الشمالية.
وهانحن اليوم نشاهد جميعا كيف تحقق الحلم في سنوات قليلة لا تحتسب من عمر التاريخ وكيف صارت المناطق الشمالية للمغرب ورشا هائلة تحتوي على احد أعظم المنتجعات الاستجمامية في منطقة البحر الابيض المتوسط الشيء الذي وكما يؤكد الخبراء والمستثمرون في هذا القطاع سيؤثر سلبيا على عائدات اسبانيا السياحية.
إن المغرب اليوم, واقولها بكل صراحة تثير حسد الدول الاخرى التي لم تنتبه لاهمية المواطن كورش رئيسي إلا بعد فوات الاوان حيث انصب كل عمل وجهود وافكار محمد السادس على حل المعضلات الداخلية لوطنه فكانت نعم السياسة, لأنه في الوقت الذي نشبت فيه الصراعات والثورات داخل الدول العربية ضد الاستبداد فإن المغاربة قد عاشوا الديمقراطية بكل كرامة المواطن فيها منذ اكثر من عقد وفي الوقت الذي انطلقت فيه الاصوات الغاضبة داخل تلك الدول فإن المغرب وصل الى معدلات تنمية استثنائية ودولة قوية البنيان بدستور محكم يوازي دساتير اعظم دول المعمورة ان لم أقل إنه اكثر رعاية لكرامة وحقوق المواطن من دساتير دول غربية نفسها.  

السابق
يا حيف على لبنان!
التالي
اكسروا الريموت كنترول «في سورية وإيران والبحرين والكويت»