هدوء تركي يعكس تسوية تُعدّ لسوريا

فاجأ ردّ فعل رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان على حادثة إسقاط الطائرة التركية عبر وسائل الدفاع الجوي السورية كثيرين ممَّن توقّعوا مساراً مختلفاً لتداعيات هذا الحادث ربّما يؤدّي إلى حرب سوريّة ـ تركيا تطلق تداعيات إقليمية ودولية.
وفوجئ المراقبون أكثر بالطريقة التي تحدّث فيها اردوغان في مؤتمره الصحافي الذي توقّع كثيرون أن يكون ملتهباً، لأنّ حديثه عن حادثة الطائرة لم يتجاوز الدقائق الثلاث، مكتفياً بالحديث عن اعتراف الجيش السوري بإسقاطها واعتذاره، ثمّ عن مشاركة البحرية السورية في البحث مع البحرية التركية عن الطيّارين التركييِّن المفقودَين اللذين كانا يقودانها.

وقد أثار هذا "الردّ التركي الناعم" تساؤلات عدّة، خصوصاً أنّه جاء أقلّ انفعالاً من تعليقات تركية عنيفة على أحداث بسيطة كانت تقع في سوريا. وعزا بعض المراقبين هذا الهدوء التركي إلى أسباب عدة، بعضها متّصل بالوضع الداخلي في تركيا حيث الانقسام يتزايد بين مؤيّدي سياسة أردوغان السورية وبين المعترضين عليها بمَن فيهم أوساط كبيرة في القوّات المسلحة التركية التي تدرك أكثر من غيرها مخاطر انفلات الأمور مع سوريا على الأمن القومي التركي.

ولكنّ هؤلاء المراقبين يربطون أيضاً بين هذا الهدوء التركي وبين تطوّرين بالغي الأهمية يرتبطان بتطوّرات الأزمة السورية، أوّلهما إعلان المبعوث الأممي كوفي أنان عن أهمية مشاركة إيران في لجنة الاتصال الدولية الخاصة بسوريا، وهو أمر يكشف عن تراجع واشنطن ودول الغرب عن "الفيتو" الذي وضعته على المشاركة الإيرانيّة في أي جهد دولي حول الأزمة السوريّة، سواء أكان في جنيف برعاية أنان أم في موسكو بإشراف القيادة الروسية.

ويعتقد سياسيّون مطّلعون في هذا السياق أنّ وراء إعلان أنان هذا اتفاق بوتين ـ أوباما على هذا الأمر خلال اجتماعهما على هامش قمّة العشرين في المكسيك.

أمّا التطور الثاني الأكثر خطورة، فهو ما أعلنته موسكو من أنّ مصير النظام العالمي الجديد يتقرّر فوق الأرض السوريّة، ما يؤكّد أنّ روسيا تنظر إلى الأزمة السوريّة كجزء من أمنها القومي، لا بل كجزء من استراتيجيتها الرامية إلى إحداث تعديلات في النظام الدولي القائم.

والموقف الروسي هنا، هو الموقف الأقوى تجاه الأزمة السوريّة منذ اندلاعها، ويحمل إنذارات لا تقلّ خطورة عن أزمة الصواريخ في كوبا عام 1960 حين نجحت موسكو يومها في تثبيت فيدل كاسترو في قيادة كوبا التي تبعد كيلومترات قليلة عن الشاطئ الأميركي الجنوبي. وفي تلك الأزمة تراجع الأميركيون عن حرب كانوا مستعدّين لشنّها ضدّ كوبا مقابل سحب صواريخ روسية ليبقى "الصاروخ الشيوعي الأكبر" ممثّلاً بكاسترو نفسه.

وفي ضوء هذين التطورين، وفي ظلّ التعامل التركي الهادئ، بدأت تتعزّز في الأفق احتمالات حصول تسوية دولية ـ إقليمية ـ عربية ـ سورية داخلية، لحلّ الأزمة في سوريا.

وما يعزّز من هذه الاحتمالات إدراك موسكو وبكين وواشنطن أنّ الثغرة الرئيسية في خطّة أنان كانت في تجاهلها لأطراف إقليمية وعربية فاعلة ومؤثرة في الأزمة السورية، وفي مقدّمها تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر. فالصيغة الدولية المقترحة لدعم مهمة أنان تحاول معالجة تلك الثغرة بإشراك هذه الأطراف من جهة، وإشراك طهران من جهة ثانية.

ولعلّ هذا ما يفّسر حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في لقائه مع نظيره السوري وليد المعلم على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في سان بطرسبورغ أمس بأنّه لا بدّ من وقف التسليح والتمويل للمعارضين السوريين، وأن تقدّم الحكومة السورية دعماً أكبر لمبادرة أنان التي أعلنا تمسّكهما بها وبدور المراقبين الدوليين.

وفي هذا الإطار، لا تستبعد أوساط مطّلعة أن يؤدّي حادث إسقاط الطائرة التركية إلى فتح قنوات اتصال بين دمشق وأنقرة، خصوصاً أنّ أردوغان قد أشار إلى اتّفاق أضَنَة المعقود بين البلدين كإطار يحكم العلاقة الأمنية على طرفي الحدود السورية ـ التركية.

فهل تصحّ هذه التوقّعات ونرى البحريتين التركية والسورية تبحثان عن طيّارَين مفقودَين فيما تبحث دمشق وأنقرة عن ردم الهوّة التي أصابت الثقة المفقودة بين الجانبين؟
في كلّ الحالات يدعو سياسيون إلى ضرورة النظر إلى المشهد السوري بعينين لا بعين واحدة، فهناك في هذا المشهد مسألتان تتسابقان: معارك عنيفة في الميدان، وجهود كثيفة على الصعيدين الدولي والإقليمي، فمَن يربح يا ترى في هذا السباق؟  

السابق
هل هي نهاية الأحزان في المخيّمات أم بداية لفصل جديد؟
التالي
خوض المعركة