الكهرباء.. نبض الحياة

المسافة من الجنوب إلى بيروت، ليست قصيرة، والطرق بحُفَرها حدّث ولا حرج، والمطبّات كثيرة، والهدف منها تأمين السلامة العامة، علماً أن الانتخابات أصبحت على الأبواب، وبشائر الزفت حان وقتها. لكن الأكثر إزعاجاً من كل هذا، هو تعرض الناس في نهار عطلتهم الأسبوعية، لقطع طريق الإياب إلى منازلهم، بالنار ودخانها الأسود الكثيف، المضرّ بالبيئة والصحة، والوطن على حدّ سواء.
هذا ما حدث خلال العطلة الأسبوعية الفائتة، أثناء عودتنا من الجنوب، حيث أشعلت الحرائق على أوتوستراد بلدة الصرفند «سرفست» المدينة التاريخية القديمة التي مر بها السيد المسيح، والتي سكنها الصحابي أبو ذر الغفاري، وما زال مقامه «ضريحه» في أرضها مزاراً للمؤمنين. تلك الحرائق أدّت إلى فوضى عارمة في قيادة السيارات المزدحمة على الطريق، حيث اضطر سائقوها إلى الدوران المعاكس لوجهة سيرهم، تفتيشاً عن السلامة العامة. وفعلتُ ما فعله الآخرون، درءاً للخطر المفاجئ، وبدأت عبر الاتصالات الهاتفية بالمسؤولين الأمنيين التفتيش عن طريق آمنة كي أصل مع العائلة إلى منزلنا في منطقة «بعبدا» بهدوء وسلام، بعد أن أصابتني حالة حزن عارم على وطن الجمال لبنان، وعلى ناسه الطيبين، وفي الوقت نفسه، اعترتني حالة من الإشفاق على من قام بالفعل الشنيع ذاك، الذي تبين أنه حالة اعتراض شعبية على الانقطاع الدائم في التيار الكهربائي.

هنا تراءى لي أنه من الواجب على كل أهل الفكر والقلم والثقافة والإعلام والسياسة، الاهتمام بهذه المشكلة الوطنية الأساسية، وألا نمر مرور الكرام على ما حدث في الصرفند، وما حدث مثيل له في الليلة نفسها على طريق المطار القديمة، وعلى ما حدث سابقاً وما يحدث باستمرار في كل المناطق الأخرى المحرومة من التيار الكهربائي. حيث ربما علينا أن نعذر المواطن الذي صرخ غاضباً عبر شاشات التلفزة، وهذا حقه، مديناً كل الهيئات السياسية في لبنان ووعودهم المتقلبة،عارضاً الحالة المزرية التي سببها انقطاع التيار الكهربائي للمواطنين اللبنانيين، والأحياء اللامحظوظة، كأن الخدمة الوطنية العامة أصبحت حكراً لمواطن دون آخر، وهنا بداية المأساة الوطنية، حيث من المثير للإنتباه، أن التيار الكهربائي لم يقطع عن الشوارع في الوقت الذي اندلعت فيه نيران الحقد والثورة واليأس والغضب، والفتنة المركبة، التي أضحت تحذيراً واضحاً عبر تعابير أولئك الشبان، الذين تحسّروا على نقطة ماء يبردون بها أجسادهم المحترقة من شدة الحر.

المشهد يستدعي الانتباه، والمشكلة عامة وليست خاصة، فالكهرباء لا تعني فريقاً سياسياً دون آخر، كما رغيف الخبز أيضاً. لذا المطلوب من الحكومة العمل بأقصى سرعة على تشكيل حالة طوارئ من الفرقاء كافة، لمعالجة قضية الكهرباء، وذلك بعيداً عن الحساسيات الحزبية الضيقة والمناطقية المؤذية، فالكل متضرر، من المواطن الواقف في الشارع مطالباَ بحقه في الكهرباء والماء، إلى المواطن القابع في منزله ينتظر الفرج، حيث الجيوب خاوية والضرائب تأكل الأخضر واليابس من النتاج اليومي أو الشهري، وحالات الانتحار واليأس تتكاثر، وأهمها ما أصبحنا على بيّنة منه، ألا وهو قتل الأطفال من قبل الوالدين، وهذه حالة مرعبة تستدعي الدراسة مع التوعية الطبية النفسية الشاملة، قبل أن تأخذ البلد إلى ما لا تحمد عقباه. حيث الأمثلة المؤذية للوطن جاهزة وغب الطلب، فالهرولة وراء تأمين لقمة العيش ونور الكهرباء يستوجب عند البعض الاذعان لحمل السلاح المأجور والمتاجرة به، والنهاية إلى خراب البلد، كما هو حاصل في الشمال اللبناني، وبعض المناطق البقاعية المتاخمة للحدود السورية، فالغاية هنا تبرر الواسطة، من منطلق علي وعلى أعدائي، والسبب حالة اليأس العارمة، التي تظهر بأشكال ومضامين مختلفة، الهدف منها اللجوء إلى القيام بالفوضى العارمة واسقاط هيكلية الدولة، وهنا الطامة الكبرى، حيث من المؤسف أن القيادات بمختلف تنوعاتهم السياسية ليسوا آخر من يعلم، والبعض منهم يسهل القيام بهذا الفعل المربك للدولة، والهدف واضح لا لبس فيه، والمواطن البائس هو الضحية.

هذا الأمر، يتبين لنا أنه مرهون بالواقع السياسي لا الوطني، هذا الواقع الذي بات مرهوناً إلى التحالفات الخارجية، الهادفة إلى تأمين مصالح الدول الكبرى على حساب الأوطان الصغيرة وشعوبها المستضعفة، ومنها لبنان. لكن أليس من الواجب الانتباه إلى تأمين حل مسألة التيار الكهربائي، وبأقصى سرعة، قبل التفكير بسحب سلاح المقاومة ضد «إسرائيل»، وقبل الطعن بمصداقية مؤسسة الجيش اللبناني المحافظة على أمن البلد بكل الشرف والتضحيات والوفاء، وقبل فتح الجبهات والممرات بين سورية ولبنان، التي تهدر الكثير من الأموال على شراء السلاح اللاشرعي؟!.

هنا يجب على الحكومة مجتمعة التفكير بحل جذري للموضوع، دون التماهي مع المصالح السياسية الضيقة، التي تحكم مصالح البعض. إذ ماذا يضير، لو لجأت الحكومة إلى الاستعانة موقتاً بالمولدات الموجودة في الأحياء، وعملت على تجديدها والإشراف عليها، بهدف تأمين الكهرباء بشكل دائم، مع احتساب المردود المادي لصالح الطرفين « أصحابها والدولة»، مع العمل السريع والممنهج على تنفيذ الخطط البديلة الموجودة حكما في أدراج وزارة الطاقة بعيداً عن التجاذبات السياسية، والتي منها إقامة السدود المائية لتوليد الكهرباء، في جميع المناطق اللبنانية، التي ربما تفيض ساعتئذ عن الاستهلاك المحلي.

وجهة النظر هذه برسم من يسمع ويقرأ ويخطط لمستقبل سياسي واعد في لبنان، فالطاقة الكهربائية هي عصب الحياة، وعنوان الدورة الاقتصادية والسياحية والتربوية والصحية والاجتماعية والإنسانية، والبلد الذي ينحو باتجاه الإنماء والتطور، عليه الاهتمام أولا وأخيراً بتأمين هذه المسألة التي قد تتحول إلى خطر لا تحمد عقباه، ومن منا لا يقدر أهمية اختراع العالم العبقري «إديسون» لهذه الطاقة الكهربائية، التي غيّرت العالم الصناعي وقفزت به قفزات متسارعة جداً نحو التطور الذي نشهد حولياته في هذا العصر، عصر التكنولوجيا الحديثة التي تعتمد أولاً وأخيراً على الطاقة الكهربائية التي هي نبض الحياة.  

السابق
الحبال التقى قائد إرتباط اليونيفل في صور
التالي
بيضون: المسؤول عن الازمة هو عون