الانتقال إلى الديموقراطيّة

في كتابه «هل الديموقراطيّة ممكنة هنا؟ – مبادئ لسجال سياسيّ جديد»، (2006)، يتصدّى رونالد دووركن لـ «الحرب الثقافيّة» في الولايات المتّحدة، محاولاً إنشاء أرضيّة مشتركة من المبادئ الأخلاقيّة تستظلّ بها السياسات الداخليّة الأميركيّة، وتكون عريضة بما يكفي لاجتذاب المحافظين والليبراليّين سواء بسواء. والمقدّمة التي ينطلق منها الفيلسوف وعالم السياسة الأميركيّ مفادها أنّ الديموقراطيّة قد تفقد قدرتها على الاشتغال حين يصبح الجدال مستحيلاً بين الخصوم السياسيّين، فيما يعمل تطوير سياسات مشتركة على دفع السجال المنتج إلى الأمام.

ينجرّ عن ذلك تمييز دووركن بين تصوّرين للديموقراطيّة، واحد يسمّيه «أكثريّاً» وآخر هو «ديموقراطيّة المشاركة»: أمّا الأوّل فيرى الديموقرطيّة، ببساطة حاسمة، بصفتها حكم الأكثريّة، فيما يصبو الثاني إلى توليد مشروع سياسيّ يكون فيه السكّان كلّهم، بمن فيهم أهل الأقليّة، شركاء كاملين. وهذا يعني أنّ الانتخابات تكون ناقصة، بل مسيئة، إن لم تقترن بحماية مضمونة ومكرّسة للحقوق المدنيّة والسياسيّة الأساسيّة كحقّ التعبير وسواه. فمن دون هذه الضمانات، سيفتقر السكّان إلى القدرة على تقويم المواضيع الأساسيّة باستقلاليّة وحرّيّة، وعلى محاسبة الحكم والحكومة. وفي هذا المعنى، لا تكون قرارات الأكثريّة الحاكمة ديموقراطيّة حين تتجاهل «مصالح أقليّة ما أو جماعات أخرى»، أو تفشل في صيانة الاحترام المتبادل الذي تتطلّبه الشراكة الديموقراطيّة.

والوضعان المصريّ والتونسيّ اليوم، حيث يمكن القول إنّ الثورة حقّقت درجات معقولة من النجاح، تحضّ على زيارة تلك الأفكار وعلى إعادة زيارتها مرّة بعد مرّة.
ففي الطريق المعقّد والمتعثّر إلى التحوّل الديموقراطيّ، هناك قوى ثلاث مرشّحة لأن تدفع أكلاف التحوّل هذا، قبل أن ترسو الثورتان على سويّة ديموقراطيّة مستقرّة ومقبولة: إنّها الأقليّات (الدينيّة في مصر والجهويّة في تونس)، والنساء، والمبدعون/ المبدعات، أي أصحاب الطلب المباشر على حرّيّة التعبير والمساءلة.

والحال أنّ الصعود الإسلاميّ الذي يمكن فهمه، وفهم الظروف التي أدّت إليه، لا يشكّل بذاته المناخ الأمثل للاطمئنان إلى «شراكة ديموقراطيّة» مع هذه الفئات الثلاث. صحيح أنّ عدداً من التحوّلات الإيجابيّة بدأ يشقّ طريقه في أوساط الإسلاميّين، لا سيّما التوانسة والسوريّين، وصحيح أيضاً أنّ الاحتكاك المباشر في شؤون الحكم، خصوصاً الاقتصاديّ منها، قد يبرّد الكثير من الرؤوس الأيديولوجيّة الساخنة، لكنّ هذا بذاته ليس كافياً للاطمئنان إن لم تصحبه ضمانات قاطعة ودستوريّة. وهنا، وأقلّه لعبور المرحلة الانتقاليّة، ربّما جاز التفكير في اعتماد صيغة ما من صيغ «الكوتا» أو «العمل الإيجابيّ» تطمئن إلى أنّ الديموقراطيّة ستكون ضمانات للأقليّات بمقدار ما هي حكم تمارسه الأكثريّة.

لقد نشأ إجماع بين مؤيّدي الثورات من غير الإسلاميّين، مؤدّاه أنّ أكلافاً باهظة سوف تُدفع في المرحلة المقبلة، هي في وجه ما ضريبة الأنظمة التي كانت قائمة، وفي وجه آخر ضريبة التاريخ. ومن أجل التقليل من هذه الأكلاف التي ستسبق الإقلاع السياسيّ السويّ، ينبغي بتّ مسألة «الشراكة» مع الفئات الثلاث المذكورة. من دون هذا، قد لا نصل إلى المرحلة السويّة إلّا وقد أفلسنا تماماً وصرنا قاعاً صفصفاً.  

السابق
استقرار متوتر تحت خيمة الطائف
التالي
لاميتا.. ملكة الفساتين المثيرة