ميقاتي باقٍ: لا استقالة

ليست صدفة أن يتمّ التسخين المبرمج للأمن في طرابلس، عقر دار الرئيس نجيب ميقاتي، ففي أحد وجوهه رسالة موجّهة إليه أيضاً.
في لحظات معينة، يفكّر الرئيس ميقاتي بالاستقالة. ولكن ليس على طريقة الذين يفكّرون بالانتحار من جرّاء تفاقم الأزمات. ولذلك، لا هو اليوم في وارد الاستقالة، ولا الذين "يمونون" عليه في وارد "إقالته"، ولا حتى المعارضة تريد منه الاستقالة إذا لم تضمن أنها ستتمّ في ظروف تناسبها!

المعلومات الواردة من مصادر وزارية بارزة تسرد سلسلة وقائع تؤكد استمرار الحكومة، على رغم كل ما يُثار في هذا المجال:

1- الحوار واقعٌ في موعده المقرّر، "ولو من أجل الصورة". وهناك غطاء عربي ودولي لهذا الحوار عبّرت عنه زيارة رئيس الجمهورية للرياض. وليس وارداً انعقاد الحوار في ظل أزمة حكومية.

2- استمدّ ميقاتي بعض المعنويات من الرسالة السعودية إلى رئيس الجمهورية، ورأى فيها تأييداً لسياسة "النأي بالنفس" في الملف السوري. وعلى رغم أن المعلومات تؤكد أنه لم يوفَّق في تأمين مواعيد له في الرياض على مستويات رفيعة، فهي تشير إلى أن علاقته جيّدة بالسفير السعودي في لبنان علي عوّاض عسيري.

3- تلقّى رئيس الحكومة في الآونة الأخيرة، عبر الأقنية الديبلوماسية والموفدين الغربيين، إشارات إلى أن حكومته ما زالت تحظى بالدعم، لأنها أفضل الممكن. والبديل منها حكومة تخضع لدمشق بالكامل، وتُناقض التوجهات والقرارات الدولية.

4- يدقِّق ميقاتي في الحسابات. وإذا كانت مطروحة فكرة ترؤسه حكومة حيادية تدير الانتخابات، أي أن يُقايض موقعه النيابي بموقعه الحكومي، فعليه أن يكون حذراً إزاء أي خطوة متسرّعة. وفيما هو يريد التمسك بالموقعين معاً، فإنّ القرارات غير المحسوبة قد تكلّفه خسارتهما معاً.

5- يدرك رئيس الحكومة أنه ليس صاحب الرأي الحاسم في الاستقالة. فدمشق التي كانت وراء قيام هذه الحكومة فضّلت في ظروف سابقة، عبر حلفائها، أن تُقدّم تنازلات و"تسهيلات" في ملف المحكمة الدولية وسواها على أن تتخلّى عن الحكومة. فالنظام السوري يريد تغيير ميقاتي وحكومته، ولكن عندما تتوافر الظروف للمجيء بحكومة موالية تماماً له. وهذه الظروف لم تتوافر حتى الآن.

لذلك، فالكلام على سقوط الحكومة هو فقط من باب المناورة السياسية من جهة ميقاتي. وأما المعارضة فهي، في موازاة سعيها ورغبتها في التخلص من حكومة تخضع لدمشق، تتردّد في خوض معركة لا هوادة فيها لإسقاطها، لأنها أيضاً لا تستطيع تأمين البديل المناسب.

الصندوق الطرابلسي للرسائل الساخنة

وبات العديد من الأوساط مقتنعاً بأنّ ميقاتي معنيٌّ مباشرة بمخطط تحويل طرابلس صندوق بريد للرسائل الساخنة. فدمشق تمارس ضغوطاً على رئيس الحكومة لتضع ضوابط للوسطيّة التي يلتزمها، ولتدفعه تالياً إلى البقاء في الحضن السوري، ومطواعاً للحلفاء. وهي إذ تختار الضرب في أكبر تجمّع للسنّة في لبنان، وفي المدينة الأكثر تمثيلاً للسنّة في الحكومة، تطمح إلى أن تُصيب "عصافير سنّية" كثيرة بحجر واحد. ويبدو مدروساً نمط التصعيد في طرابلس وقابلاً للتطوير وفقاً للحاجة.

وفي المقابل، تَخوض القوى الطرابلسية مواجهة قاسية مع سوريا، مباشرة وبالواسطة. وأزمة ميقاتي أنه لا يستطيع أن "ينأى بنفسه" عمّا تتعرض له مدينته وأهلها، لكنه عاجز عن اتخاذ الموقف المناسب. فهو لا يستطيع مواجهة سوريا وحلفائها، أي القوى التي يتشارك معها الحكومة، والوقوف إلى جانب القوى السنّية وفريق 14 آذار في طرابلس. ومن هنا موقفه المتردّد.

العارفون بميقاتي يقولون إنه في أعماقه يتمنى أحياناً أن يغادر هذا القفص الذي يقيم فيه، ولو كان ذهبياً. ويبدو أن الإقامة تصبح مكلفة أكثر فأكثر. فهو عندما جاء إلى السراي، عقب الإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري، كان يعتقد بأنّ المرحلة ستسمح له بتمرير التسويات على الطريقة التي رعى فيها تسويات العام 2005. لكن هذه المرحلة هي مرحلة مواجهات لا تسويات. وهو يخاف أن يدفع ثمن المواجهة بدلاً من أن يقطف ثمن التسوية.

ولذلك يفكّر أحياناً في الخروج من اللعبة كما ينسحب اللاعب من مغامرة بالحدّ الأدنى من الخسائر أو الأرباح، لأنه يدرك مدى فداحة الخسارة إذا استمرّ في اللعبة… ولكن مَن يوفّر لميقاتي غطاء نارياً يتيح له الانسحاب في سلام، ومن دون خسائر؟ ومن هنا، فهو باقٍ، ولم يتّخذ قراره الجازم بالانسحاب… حتى إشعار آخر.

وهكذا تبقى حكومة ميقاتي في وضعية الشلل القريبة من الاستقالة… لكنها لا تستقيم ولا تستقيل!  

السابق
الجانب الأخطر في الأزمة السورية
التالي
السفير: طرابلس ـ الرهينة: هدوء ما قبل العاصفة الجديدة؟