محنة طرابلس في عجز الدولة!

الوضع بين باب التبانة وجبل محسن في طرابلس، يعيدنا إلى مشهد الشيّاح وعين الرمانة، الذي انطلقت منه الحرب البشعة، واستمر متأرجحاً بين الاشتعال والهدوء، طوال السنوات العجاف.
واستمرار «الجرح النازف» على حدّ تعبير سفير أوروبي، في خاصرة الفيحاء، يؤشر إلى وجود مخطط جهنمي، يتجاوز بأبعاده ومخاطره المنطقة الفقيرة بجناحيها، إلى استهداف البلد واستقراره ووفاقه، انطلاقاً من العاصمة الثانية والشمال، حيث جاهر النّاس باكراً بالوقوف إلى جانب إخوانهم في سوريا، ففتحوا لهم بيوتهم وقلوبهم، وساعدوهم في المسكن والمشفى والمدرسة، وفاء لدين في أعناقهم، عندما كان لبنان يعاني تحت وطأة المحنة.

ورغم اتضاح مخاطر الحالة المتفجرة في الشمال عامة، وفي طرابلس خاصة، ما زالت معالجات الحكومة والقيادات الأمنية تكتفي بملامسة القشور فقط، والتركيز على الظواهر الباهتة من المشكلة، من دون الخوض في صلب القضية التي تُهدّد الاستقرار والسلم الأهلي، في منطقة حبلى بكل عوامل الانفجار!.
الاجتماع في الصالونات المكيفة، والشارع يغلي بنيران القذائف الصاروخية، رفع الغطاء السياسي عن المخالفين، والمقاتلون لا همّ لهم سوى تحقيق ما التزموا به لمراجعهم التمويلية والتسليحية، مناشدة المسلحين الانسحاب من الشوارع تمهيداً لدخول الجيش والقوى الأمنية الى منطقة الاشتباكات، وكأن القوات الشرعية بحاجة لاستئذان مسلحي الشوارع للقيام بواجباتها… اشتراط الالتزام بوقف النار من الجانبين حتى يعاود الجيش انتشاره، وكأن الجنود البواسل يخشون وجود ميليشيات الشوارع في مواقع انتشارهم.. إلى آخر المسلسل الذي يرسم حجم المأساة – المهزلة التي تعالج بها الحكومة بؤرة تفجير تهدد بامتداد نيرانها إلى أكثر من منطقة في هذا البلد المعذّب!.

لقد أصبح واضحاً أن «جبهة» التبانة وبعل محسن تشتعل عند بروز أي خلاف سياسي داخلي، سواء بين مكونات الحكومة من أهل الموالاة أنفسهم، أو بين طرفي 8 و14 آذار من جهة، أو حتى عند حصول حادث فاقع في مجرى المواجهات السورية، مثل مجزرة الحولة، من جهة ثانية!.
مما يعني أن هذه «الجبهة» تحوّلت إلى صندوقة بريد لأطراف محلية وإقليمية، تحاول أن تستفيد من توتر الساحة الطرابلسية خاصة، والشمالية عامة، لتوجيه الرسائل لمن يعنيه الأمر في الداخل والخارج، مما يعني أن هذه الجبهة ستبقى مشتعلة، على البارد حيناً، وفي منتهى السخونة في أحيان كثيرة، على نحو ما حصل في الأسبوع الماضي، وأدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، معظمهم من المواطنين الفقراء الأبرياء!.

والسؤال الذي يطرح نفسه مع كثير من علامات الاستفهام: لماذا تتجاهل الحكومة مخاطر الوضع المتفجر في طرابلس، وتعالج جبهة باب التبانة وجبل محسن بالمسكنات، والتي يبدو أن بعضها قد تجاوز تاريخ الفعالية وأصبح Expired!!.
هل ثمة من يُخفي عن رئيس الحكومة ووزراء المدينة الأربعة الآخرين، تقارير المخطط الجهنمي الذي قد تطال تداعياته الوضع اللبناني الهش برمته، في حال فشلت محاولات محاصرته والقضاء عليه في الفيحاء؟.
ما المانع من أن يقوم الجيش الوطني بمهماته ومسؤولياته كاملة في فرض الأمن في التبانة وبعل محسن، ولو اضطر لاستخدام القوة الحاسمة، وشن حملة لتنظيف هذه المنطقة المتفجرة من السلاح؟.
.
 ولعل الحديث عن السلاح هو بيت القصيد، ويبقى المدخل الجدي لأية معالجة حقيقية وحازمة للاضطرابات التي تهدّد الأمن والسلم الأهلي في البلد.
مع التسليم جدلاً أن سلاح المقاومة، الذي تجاوز بتطوره وأبعاده الاستراتيجية السلاح الفردي من مستوى الكلاشينكوف الى القنبلة اليدوية، إلى قذيفة «الآر.بي.جي»، ودخل معادلة الردع الصاروخي مع العدو الإسرائيلي، وهو مطروح أولاً وأخيراً على طاولة الحوار تحت بند «الاستراتيجية الدفاعية».

أمام هذا الواقع الذي يفرض نفسه على المعادلة الداخلية، تصبح التساؤلات مشروعة عن أسباب عدم إقدام الحكومة على اتخاذ قرار حاسم بحجم إعلان طرابلس مدينة منزوعة من السلاح، تحت طائلة تكليف الجيش والقوى الأمنية بمداهمة أية منطقة أو أي منزل يخرج منه السلاح، أو حتى إحالة المخالفين إلى القضاء المختص لإنزال العقوبات الرادعة، وبالسرعة المرجوة، حتى يكونوا عبرة لكل من يعتبر.
لقد سبق لنواب وقيادات الفيحاء أن أجمعوا على المطالبة بسحب السلاح من المدينة، وملاحقة كل من تسوّل له نفسه سهولة التلاعب بأمن طرابلس، وتعريض مصالح أهلها وأرزاقهم للضرر، ولكن تلك المطالبة، ومثيلاتها التي صدرت عن نواب بيروت وصيداً ومدن أخرى، ذهبت أدراج الرياح مع دولة تبدو وكأنها مستقيلة من مهمتها، وعاجزة عن القيام بمسؤولياتها الشرعية والقانونية تجاه مواطنيها.
اليوم، وتحت وطأة الجرح النازف في طرابلس، ماذا يمنع الجيش والقوى الأمنية من اعتماد خطة لسحب السلاح من منطقتي التبانة وجبل محسن، وإقدام الدولة على إطلاق ورشة إنمائية تؤمّن العمل الشريف واللقمة الكريمة لأبناء المنطقتين، الذين تدفعهم البطالة إلى حمل السلاح ضد بعضهم بعضاً!!.

من يتجرأ من الساسة وقادة الأحزاب على معارضة سحب فتيل التفجير من المنطقة التي يُهدّد انفجار العنف فيها إلى جرّ البلاد والعباد إلى مواجهات دموية انتحارية مرعبة، لن يخرج منها أحد منتصراً.
أما المعالجات على طريقة تبويس اللحى، ووصف حبات الأسبيرين لحالة سرطانية بحجم الأزمة المزمنة بين التبانة وجبل محسن، فتبقى دليل عجز السلطة الشرعية على بسط سيادتها على أراضي الوطن، وإثبات آخر على عدم قدرة الدولة على حفظ هيبتها، وتوفير الأمن والاستقرار لمواطنيها!.
عندها ستستمر محنة طرابلس بسبب ضعف الدولة وعجز أجهزتها المختلفة! 

السابق
لو يدفع ميقاتي ورفاقه الضرائب؟
التالي
الحرب تبدأ.. شمالاً؟