عكار والجيش في دويلات الطوائف ..

حتى من قبل التفجّر الدموي الخطير للأزمة السياسية في سوريا، كان لبنان يعاني من تهالك «الدولة» بمؤسساتها جميعاً، وضعف السلطة المنشقة على ذاتها دائماً، والتي تحولت عملياً إلى تحالف طوائفي يواجه تحالفاً طوائفياً آخر، في «شراكة مصلحة» تزيد الأرباح فيها بقدر ما تقترب البلاد من حافة الفتنة.
ولقد أضاف التصادم الدموي المفتوح بين النظام في سوريا وبين معارضيه الذين تعززت قدراتهم القتالية وتوسع انتشارهم حتى «الحدود» مع لبنان فرصة إضافية للطوائفيين فيه يدر استثمارها مواقع نفوذ وأرباحاً من دون رأسمال… خصوصاً أن هذه «الحدود» لم تكن في أي يوم سداً منيعاً في وجه المتنقلين بين الدولتين المتداخلتين جغرافياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، فكيف والأزمة في سوريا تتخذ أكثر فأكثر بُعداً طائفياً؟!

في هذا السياق يقع الحادث المأساوي الذي وقع أمس، بين جنود من الجيش وبعض أهل بيئتهم الحاضنة في عكار، بكل ما نجم عنه من إشكالات وتصرفات احتجاجية تصب، غالباً، في قناة الاستثمار السياسي ذي الخلفية الطائفية.
لم يخرج أهل عكار من جيشهم ولن يخرجوا، لكن اهتزاز البلاد أمس نتيجة هذا «التصادم» غير المقصود وغير المخطط له، يؤكد مخاوف اللبنانيين من اندثار الدولة.
ففي لبنان دويلات كثيرة ولا دولة، وطوائف كثيرة وقليل من الدين، وسلاح كثير لكن أقله في يد الجيش، وميليشيات كثيرة تتولى إدارة السلطة من خارج «الشرعية».

لقد تطأفت المؤسسات والوزارات والإدارات والنيابات والمواقع القيادية القضائية والأمنية. بات للطائفي حصانته، أما المواطن الطبيعي ـ إذا ما وجد ـ فليست له لا حصانة ولا حماية. تخرج من الطائفة فيتم إخراجك من دولة الطوائف والمذاهب التي بات لها وكلاء حصريون.
أنشأت كل طائفة «دولتها» بالإدارات الموازية فيها والأجهزة الأمنية والدورة الاقتصادية الداخلية… بالجامعات والمعاهد والمدارس. تعلِّم كل طائفة تاريخاً مختلفاً يظهر للبنانيين أنهم «شعوب» مختلفة، لكل شعب ـ طائفة منها تاريخه الخاص، وتنصب له أبطالاً منها وشهداء لها وحدها، ولها «جيشها» السري وشرطتها وقضاؤها المستقل… بل إن لكل طائفة «مقاومتها» التي تشكك الطوائف الأخرى في وطنيتها.
ولقد دخل العالم جميعاً، والعرب خصوصاً، هذه اللعبة اللبنانية الممتعة!!

استعادت «الدول» تاريخ المتصرفية في لبنان حيث كانت لكل طائفة في لبنان دولتها الحامية.
ومن أسف أن بعض الدول العربية، لا سيما النفطية، قد وجدت في هذه «اللعبة» ما يؤكد «دورها»، بغض النظر عن حجمها أو عن عصريتها… وبمعزل عن ادّعاءات حماية الأقليات، أو «نصرة المجاهدين».
ولا يمكن النظر إلى قرار بعض أقطار الخليج العربي فرض حظر على لبنان، ومنع رعاياها من القدوم إليه، للاصطياف أو للسياحة الممتعة أو لتوظيف بعض فوائض أموالهم، إلا مشاركة في تأزيم الوضع الدقيق في لبنان المهدد بالتفجر… خصوصاً أن خلفيات هذا القرار الذي يتخذ طابع العقوبات الجماعية تلمح إلى أبعاد تتجاوز السياسة إلى الطوائف والمذاهب والصراع مع النظام السوري، والذي يكاد يبلغ ذروته ـ الإعلامية على الأقل ـ مع النظام الإيراني.
… وهكذا يدفع اللبنانيون الضريبة أضعافاً مضاعفة، في الداخل وفي المحيط، فيخسرون دولتهم المستضعفة التي تلتهمها الطوائف والمذاهب ثم يعاقبهم «أهلهم» لأسباب طائفية أو مذهبية.

مع ذلك كله سيبقى اللبنانيون جميعاً، وأهل عكار في المقدمة، حريصين على جيشهم لأنه الضمانة الأخيرة، وربما الوحيدة الباقية من «الدولة» التي التهمتها نيران الطائفية والمذهبية من الداخل والخارج!

السابق
الدوحة – بيروت: فائض الأمل واليأس
التالي
فرادة الاختراق