عكار كلها وادي خالد

حدود لبنان الشمالية سائبة. لا يمكن لزائر الشمال العكاري نهاراً رؤية المهربين، لكنه سيرى آثار أقدامهم فوق الطرقات الترابية التي يسلكونها يومياً، إما لتهريب السلاح، أو لإلهاء الجيش السوري المرابض هناك واستفزازه ليرد على مصادر النيران فيخترق السيادة اللبنانية

لا يبالي المارة بنصب الجيش اللبناني عند مستديرة العبدة. لا يعيرونه أي اهتمام. ينشغل الصيادون بأسماكهم عن الأنصاب. يكشّون الذباب بيد وينادون الزبائن للاقتراب باليد الأخرى. كيلو السمك هنا بثلاثة آلاف ليرة. عكار (كانت) خزان الجيش. تُخزن فيها اليوم أشياء أخرى. تنفتح الطريق باتجاهي العبودية والعريضة. بحر من جهة وحائط شاحنات تحجب الطريق من الجهة الأخرى. فيما تقفل محال السمانة التي فتحها تهريب البضائع من سوريا إلى لبنان، ثم أقفلها. «كنا نبيع كل ما يمكن تهريبه، أما اليوم فنبيع كل ما توزعه الهيئة العليا للاغاثة للنازحين»، يقول صاحب متجر صغير. تسوّق زوجته أكثر لبضاعتهما: «أرز، طحين، سيريلاك، عدس، سكر، زيت، نوتيلا، كل ما تريدونه. وكله أوروبي».

لا جيش هنا، آخر عسكري «منتشر» كان يقف بالقرب من النصب التذكاري. بعده، على طول الطريق والشاطئ الهادئ هذه الأيام: «ولا عسكري». بعد مركز الأمن العام السابق في العبودية تنتصب طريق وُسّعت وزُفّتت أخيراً، تربط القرى الحدودية ببعضها البعض من العبودية حتى وادي خالد. صعوداً إذاً إلى الدبابية. لا جيش، مرة أخرى، هنا. تنتشر على طول الطريق بلدات صغيرة وأحراج خضراء ومساحات مقفرة وأخبار عن مسلحين يجوبون الخط الحدودي مساء ليطلقوا النار على مراكز الجيش السوري المرابض في نقاط ثابتة على الجهة الأخرى من الحدود.

في الدبابية، «دبابية غربية» للمسلمين و«دبابية شرقية» للمسيحيين. ومن الزفت إلى طريق ترابية تخبئها الأشجار، نقطة صغيرة للقوة الامنية المشتركة يجلس فيها عنصر أمني واحد، فمتعرجات توصل إلى النهر. النهر الكبير يغدو هنا صغيراً. يمكن القول ساقية. ساقية تفصل كل ما تشهده عكار من تعبئة مذهبية وانفلات أمني عن سوريا. قرب النهر، يجلس كرم في مزرعة أسماكه تحت شجرة عملاقة، مراقباً الجنود السوريين المتمركزين في نقطتهم على التلة قبالته. يفضل كرم، كغالبية أبناء الدبابية، عدم التعليق على الأشباح الذين يزورون البلدة كل بضعة ايام: يتمركزون في أحد بساتينها ويطلقون الرصاص على المراكز السورية. يردّ الجنود السوريون بالمثل، فتصاب منازل المدنيين النائمين. على الأوتوستراد الجديد، نحو سبع بلدات حدودية، وفي البلدة الواحدة أكثر من ثلاثين طريقاً فرعياً توصل إلى النهر الكبير، تنتشر القوة المشتركة على إحداها فقط. هذه حدود لبنان البرية «السائبة». تجمع التقارير الأمنية على أن مطلقي النار لا يهدفون بشكل أساسي إلى إصابة العسكريين السوريين: هم يلهونهم فقط، لشغلهم عن عملية تهريب أو لجذبهم بعيداً عن الطوق العسكري والأمني شبه المحكم على البلدات السورية الحدودية.
هنا المعابر غير الحدودية على مد النظر. أما المعابر الرسمية فسبعة: القبيلة، أم جامع، دوارة النهر، العريضة، السكة الحديدية، ملتقى النهرين وشهيرة. لكن عدد العناصر في أكبر هذه المعابر لا يتجاوز العشرين. في ظل دراسات عسكرية تؤكد الحاجة هنا إلى أكثر من 250 جندياً على الأقل ليمنع الجيش التهريب، أقله في محيط المعابر الرسمية.

الحدود سائبة والداخل أيضاً. تتعامل الحكومة مع النازحين السوريين بوصفهم لاجئين إنسانياً فقط. تمنع نفسها عن التعامل سياسياً وأمنياً معهم بوصفهم لاجئين أيضاً. فيحل الاهتمام بالعائلات البائسة المهجرة من منازلها محل الانتباه إلى عناصر يتنقلون في وادي خالد وجوارها على دراجات نارية جديدة، وبين الوادي وحلبا بسيارات «مفيمة». ويتمتعون ــــ تحت غطاء اللجوء الإنساني ــــ بحريّة مطلقة. فلا امن يدقق في تنقلهم من دون أوراق رسمية، ولا أمن يمنعهم من عقد اجتماعات هدفها الوحيد: توتير الأوضاع اكثر في سوريا. في ظل حرص المتعاطفين معهم على استئجار منازل لهم لا شقق: منازل كبيرة تحيط بها البساتين. في أحراج بلدة ببنين يمكن إحصاء منزلين على الأقل، ومنزلين آخرين في بلدة كوشا، ليتضاعف العدد في تكريت، وصعوداً من البرج باتجاه عكار العتيقة. يرعى أحد اشقاء النائب خالد ضاهر، بكل حنان أبوي وعطف وكرم، هؤلاء. وفي نقاط أمنية غير رسمية، هي في تزايد يومي، يمكن الملاحظة أن السوريين باتوا اكثر من اللبنانيين. لا عنصرية وطنية، ما دام الشباب «يقاتلون في سبيل الله». في عكار يطلق بعض المتهكمين على أحد المستشفيات اسم مستشفى «الجيش السوري الحر». وبمجرد الركون قليلاً في موقف المستشفى، يمكن ملاحظة سيارة بلا لوحة و«فوميه» أيضاً، محسوبة على أحد نواب المنطقة، تدخل وتخرج أكثر من ست مرات خلال ساعتين.

في وادي خالد، الناس لا يكذبون: يقولون، صراحة، إن التهريب وسيلة عيشهم الوحيدة. ويقولون، بصراحة أيضاً، إن الجيش السوري نجح منذ نحو شهرين بإحكام إقفال كل معابر التهريب التقليدية. توقف النهر عن حمل قوارير الغاز وتنك المازوت وربطات الخبز إلى الوادي. بات سعر كيلو الخيار هنا كسعره في طرابلس وربما في بيروت، لم يعد يباع الخيار هنا، كالبندورة واللحمة والدجاج، بالليرة السورية. ثمة من يغامرون بحياتهم وحياة آخرين «من أجل هزم النظام السوري»، لكن لا أحد سيغامر بقطع النهر من أجل علب السردين أو أكياس التشيبس وغيرها. هكذا يصبح الدخول في مافيات تهريب السلاح هدف كل من يود الحفاظ على نمط عيشه السابق. ملامح هذه المافيات لا تزال ملتبسة حتى بالنسبة الى المراجع الأمنية والنافذين في وادي خالد غير المتحمسين لإسقاط النظام. البعض يتحدث عن تجار كبار بنوا خلال السنوات الماضية خطوطاً لتهريب الأدوات الكهربائية والالكترونية لا يمكن قطعها، وعلاقات مع نافذين في الجمارك السورية والاستخبارات لا يمكن قطعها. يُذكر في هذا السياق اسمان على الأقل، أحدهما ينسق بشكل شبه علني مع مجموعات «الجيش السوري الحر» المرابضة في المنطقة. وتضاف إليهما مجموعات صغيرة لا تنسق إحداها مع الأخرى، وتنشط بشكل شبه منفصل في مهام يطغى الطمع المادي فيها على «الواجب الديني». ووسط هؤلاء، ثمة ناشطون سوريون في النصف اللبنانيّ من البلدة الفلانية لهم أشقاء وأبناء عم في النصف السوريّ من البلدة يهرب السلاح إليه من الشباك إذا أقفل الباب في وجهه.

في المقابل، لا سياسيون. مرت ثلاثة أشهر على آخر استعراض إعلامي قام به نواب تيار المستقبل في المنطقة. لا تنظيم حزبياً لتيار المستقبل هنا: في مشتى حمود للتيار الوطني الحر هيئة ولا هيئة لتيار المستقبل. نشاط مختار مشتى حسن ميسر خالد، المناوئ للمستقبل، أكبر في بلدته من نشاط التيار الأزرق. وفي وادي خالد يخبر شاب أنه حصد أكثر من 600 «لايك» على «ستايتس» كتبها على الـ«فايسبوك» قبل بضعة ايام، فيما لا يحصل أبرز نواب المنطقة على أكثر من 100 «لايك» مهما كتب، ليستنتج أن شعبيته أكبر من شعبية سعادته، وهو بالتالي (خصوصاً في ظل نضاله الميداني لإسقاط النظام السوري) أحق من النائب بالنيابة.
في الأشهر القليلة الماضية تمدد وادي خالد: تكاد تكون عكار كلها اليوم وادي خالد على صعيد الانفلات الأمني، الفراغ السياسي والرغبة الشديدة بتهريب السلاح وأشياء أخرى من لبنان إلى سوريا.

السابق
اليونيفيل تقترح معاودة التدقيق الميداني لمعالجة الخروق التي اعترض عليها لبنان
التالي
الاخبار: التحقيق في اغتيال جعجع يعود إلى النقطة الصفر