الباركور: رياضة القفـز والجنون

في نادي الـ«باركور» (parkour) اللبناني، النادي الأول والوحيد في لبنان لهذه الرياضة، تجمع التمارين شبانا وشابات من مختلف الأعمار، من مناطق وبيئات متنوعة، ليمارسوا رياضة فيها الكثير من التحدي لقدرات الفرد الجسدية، بالإضافة إلى قوى الطبيعة، وتحديدا الجاذبية. يستخدم المتدربون الحائط للمشي بدلا من الأرض، ويمضون معظم وقتهم معلقين في الهواء، أو «طائرين» فوق عوائق مرتفعة باستخدام أقصى قدرة عضلية. يجمعون في حركاتهم العديد من أساليب الرياضات البدنية في رياضة مميزة تصنف في خانة تقع بين الفنون القتالية وبين الرياضات المتطرفة.
يصف مؤسس النادي جو زغيب الباركور بأنها فن التنقل، «أي الانتقال من نقطة «أ» إلى النقطة «ج» من دون إلزامية المرور بالنقطة «ب»، بأسرع وقت وأقل جهد ممكن». وولدت هذه الرياضة من فكرة «الهروب» التي تتطلب سرعة في الحركة ومهارة للخروج من المواقف الخطرة. لذا فهي ليست فقط رياضة محصورة في زمان أو مكان محددين، بل تشكل مهارة يمكن الاستفادة منها في الحياة العملية.

تعتمد هذه الرياضة بشكل أساسي على حركة عضلات الجسد والتحكم فيها بشكل صحيح، فهي، كما يصفها زغيب، «فلسفة الحركة». وبالتالي يرتكز تفكير الـ«ترايسور» (الشخص الذي يتقن الباركور) على كيفية القفز والهبوط بشكل صحيح، إضافة إلى السيطرة على حركة الجسد في الهواء، متخطيا العقبات التي تعترضه، بغض النظر عن الارتفاع. وتكمن الأهمية هنا في تفادي الإصابات أثناء القفز، والتي يمكن أن تكون خطيرة إن مورست حركة الـ«باركور» بشكل خاطئ.
وبالإضافة إلى السيطرة على عضلات الجسد، فإن هذه الرياضة تتطلب انضباطا وسيطرة على النفس، وهنا تكمن «فلسفتها». يشرح محترفو هذه الرياضة «بأن ممارسة الباركور تخلق قوة واندفاعا داخلـيا للقيام بحركات لا يكون الجسد قادرا على تحملها، وفي الأجواء الحماسية عندما يكون الشخص هو محط الأنظار وسط تشجيع الحاضرين، ترتفع نسبة الادرينالين في الجسم، وقد يفقد المُستعرض سيطرته على جسده، ما يعرضه لخطر كبير». الوصول إلى انضباط النفس يحتاج إلى وقت طويل في ممارسة الـ«باركور»، حتى تصبح جميع الحركات تحت السيطرة، أي أن يستطيع الـ«ترايسور» التحكم بعقله، عندها لا يمارس هذه الرياضة فحسب، بل يعيشها.

تعرّف جو زغيب على الـ«باركور» من خلال الفيلم الفرنسي الشهير « banlieue 13» أي «الضاحية 13»، عند سن الخامسة عشرة. تأثر زغيب بشخصية بطل الفيلم الذي أدى دوره الفرنسي دافيد بيل، واضع أسس هذه الرياضة. فبدأ جو بتحميل المزيد من فيديوهات الـ«باركور» عن الانترنت، وصار يقلد الحركات مع صديقة جاد بوشاهين، ويقومان بتحسين مهارتهما عبر «التجربة والخطأ». بعدها درسا التربية البدنية في جامعة «البلمند»، الأمر الذي ساعدهم على فهم حركات كل عضلة في الجسم البشري وتطوير تدريباتهم الفردية وبالتالي احترافها، وصولا إلى تأسيس النادي في عام 2003.
حتى اليوم، مرّ على النادي أكثر من 300 شخص تعرفوا على هذه الرياضة الجديدة، والتي يصفها بعض أهلهم «بالجنون» أو «النط مثل القرود». ويتخرج من النادي في كل فترة بين 30 و40 متدربا جديدا، من أعمار مختلفة.
يحضر كريستيان عرموني، البالغ من العمر 6 سنوات، التدريب بانتظام. ويقفز فوق العقبات نفسها التي يقفز عليها الشباب الأكبر منه سنا. يقول كريستيان بلغته الطفولية إنه يحب القفز والرياضة. والده، الذي شجعه على ممارسة هذه الرياضة «القاسية» بالرغم من اعتراض والدته، يعتبر أن هذا التمرين يساعد كريستيان على تنمية شخصيته الخجولة والتفاعل مع الأشخاص ضمن مجموعة. وبالرغم من أن الطفل يمارس أكثر من رياضة واحدة، باتت الـ«باركور» محفزه الأساسي للتقدم في المدرسة، لأنه مهدد بالحرمان منها في حال تراجعت علاماته المدرسية.
لا تختلف الأسباب التي دفعت الفتاة العشرينية كيم رنّو لممارسة هذه الرياضة عن زملائها في النادي. أولها: «منذ الصغر وأنا أحب القفز والحركة». وكانت تقلد تلك الحركات في صغرها، لذا سارعت للاشتراك في النادي. أما ستيفاني سالم، فهي رياضية بامتياز، والـ«باركور» واحدة من الرياضات التي تمارسها.

وبالإضافة إلى أن هذه الرياضة تفرغ الشحنات السلبية والغضب، كما يقول كثر من رواد النادي، يعتبر هؤلاء أن التمرين المسائي يعد بمثابة هروب من ضغوطات النهار، فهنا هم أحرار بأنفسهم وتصرفاتهم، فضلا عن أنها تحافظ على رشاقتهم وتعزز ثقتهم بأنفسهم. يقول احدهم ممازحا: «بحس حالي كتير قوي». ومما لا شك فيه أن أغلب الشباب المتدربين يرغبون بالانضمام إلى الفريق المحترف الذي يكبر باستمرار. ويتألف الفريق من الرياضيين الذين أتقنوا الـ«باركور» وأصبح لديهم إمكانية ممارسة ما يسمى بالـ«الركض الحر» أو «Free Run»، وهي الدرجة الأعلى التي تسمح للرياضي بالتفنن في الحركات على طريقته.

يقوم الفريق حاليا بعدة نشاطات، منها الاشتراك في العروض الرياضية التي تحصل في لبنان، كاشتراكهم في عرض مع فريق الـ«باركور» الاميركي في بيروت، بالإضافة إلى تصوير إعلانات لبعض المنتجات. كما قام النادي بتقديم عروض لجمع التبرعات لمؤسسات خيرية، كان آخرها لمصلحة مركز سرطان الأطفال اللبناني.
ويسعى الفريق للاستفادة من المواهب والاختـصاصات المتعددة الموجودة في النادي، حيث قاموا بتصوير فيلم قصير يقومون فيه بحـركات الـ«باركور» لتعريف الناس على هذه الرياضة التي يطمح جو زغيب أن تزدهر على المستوى اللبناني، لتسمح لهم بالمشاركة في البطولات العالمية يوما ما.
ربما يرى الكثيرون في هذه الرياضة مغامرة تعرض حياة من يمارسها للخطر. إلا أن ممارسي الـ«باركور» يؤكدون أن الشعور الذي ينتاب من يقوم بهذه الحركات الخطرة، لا يمكن أن يحسوا به عند ممارسة أي رياضة أخرى. وبالنسبة لهم، الـ«باركور» أكثر من رياضة.. هي أسلوب حياة.

السابق
عبود: تسوية إنفاق صرف ال11 مليار لن تمر في مجلس الوزراء
التالي
طلاب الأميركية معاً ضد الغلاء