ليس ربيعاً.. إنه الخريف وسايكس بيكو جديدة!

السياسات ليست من ثوابت الطبيعة, وإنما هي نتاج الحركة المجتمعية, تتطور أو تتغير مع الظروف الخاصة والمحيطة بأي مجموعة, إضافة إلى ما نتعلمه ونراكمه من خبرات. من هنا فإن مدماك السياسة الأول موجود في الجغرافيا انطلاقاً من المركز, أي المحلي, ثم يتدرج مروراً بالمحيط الإقليمي وصولاً حتى الدولي, وما لم يتم البناء على هذا التراتب نكون كمن يبني قصراً على الرمال.
ينطبق هذا المفهوم جداً على العالم العربي الذي كان كياناً اجتماعياً واقتصادياً متكاملا تحتضنه ثقافة واحدة بلغة حية ساهمت بإثراء الحضارة الكونية, هذا الكيان قسمه الغرب في سايكس – بيكو مطلع القرن الماضي وزرع في قلبه الكيان الصهيوني بشكل يخدم مصالحه مباشرة, وعلى أثر انهيار أكبر امبراطوريتين في التاريخ الحديث, وهما العثمانية والبريطانية. ثم تعايشنا نحن مع هذا التقسيم وبنينا عليه أسواراً من العزل حتى صارت كل مدينة أو منطقة كياناً قائماً, يستنجد بالأجنبي لحماية كيانه المصطنع حتى من أخيه!
وها هو اليوم وخدمة لمصالحه يقول الغرب إن خريطة سايكس – بيكو رسمت على عجل, ولم تعد قادرة على تلبية المتغيرات فبات من الملح تعديلها.
اليوم يحضرنا القول: ماذا تنفعنا أميركا وجبروتها, إذا كانت جبهتنا الداخلية مضعضعة ونظامنا السياسي مضطرب واقتصادنا وتنميتنا في غيبوبة? ماذا تستطيع أن تفعل أميركا لأحدنا إذا كان دوره في محيطه مغيباً عندما قطع جذوره بيديه?
مشكلتنا أننا عرب ونعيش في هذه المنطقة, وتلك هي أزمتنا مع الولايات المتحدة التي يستحيل عليها رؤيتنا إلا من خلال العين الإسرائيلية, مهما حاول البسطاء والأغبياء منا إدعاء صداقة أو مصالح أو حقوق إنسان وما إلى ذلك من معزوفات.
في العالم 2010 أي في العام الذي سبق الثورات العربية, رفعت ال¯ "سي أي إيه" أكثر من 1700 تقرير لإدارتها عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ونحو 15 ألف تقرير عما جاء في صحافة هذه المنطقة, "ويكيليكس" أظهر بالوثائق مدى الانسجام المتبادل لهذه الأنظمة المتهاوية مع الإدارة الأميركية إلى حد التحالف, بل والتماهي, ما يعني حكماً بأن هذه البلدان كانت مرتعاً لأجهزة المخابرات الأميركية والأخرى الحليفة, ما يعطيها سهولة الحركة والوصول إلى مراكز القرار والمعلومات باعتبارها أرضاً " صديقة ".
البيت الأبيض يتهم الاستخبارات الأميركية بالتقصير وال¯"سي أي إيه" ترد: "لسنا عرافين", الجميع في ورطة ويعيشون المفاجأة, البعض يراها صدمة وآخرون يرونها صفعة, حصل ذلك إزاء ثورة تونس, وتكررت الصدمة أو الصفعة, خلال أقل من شهر إثر انهيار نظام حسني مبارك الحليف الأول في المنطقة (عدا اسرائيل).
وقد يكون أوباما مثال الزوج المخدوع, وهي رتبة يستحقها بعد سلسلة طويلة من الانتكاسات راكمها منذ توليه السلطة. الولايات المتحدة المهزومة على يد بوش تراجعت قدرتها من مرحلة صنع الأحداث إلى مرحلة متى ستقع? ثم هل ستقع? كل هذا الضجيج في الكونغرس أتى على خلفية آخر ميزانية أقرت للاستخبارات وهي بحدود 80 مليار دولار.
لقد بدا واضحاً من خلال المتابعة أنه ليس مهماً حضور اللحظة السياسية في مواكبة الحراك الشعبي العربي, وبخاصة بعد أن أصبحت (هذه اللحظة ) تمثل اللعبة الدولية أو تستحضرها, المهم أن هذا الحراك انطلق ولا توجد قوة قادرة على إيقافه أو إخفائه. كذلك ليست مهمة التسمية, وكل هذا الجدال القائم حولها بين ثورة أو حركة تغييرية وربيع عربي وخلاف ذلك, ففي زحمة الحراك الجاد لا يعدو كونه ترفاً سمجاً للفت النظر.أخيراً اعتمد الغرب توصيف " الربيع العربي " ولحقه العرب فتبنوه أيضا, لكن هذا التوصيف لم يكن موفقاً إذ كان يصلح في اللحظة الأولى, أي حتى سقوط نظام حسني مبارك, لأن ما حصل فعلياً بعد ذلك جاء مختلفاً.
هناك اجماع أن ثورتي تونس ومصر فاجأتا الجميع, وكان لهما وقع الصاعقة على المنطقة والعالم بأسره باعتراف الكل. لأن حجم المفاجأة نابع من كون نظامي تونس ومصر من الأنظمة الحديدية التي يصعب التنفس في حضرتهما خارج إرادة قواها الأمنية, واللافت ما حصل في مصر التي كان يملك نظامها نحو مليوني رجل أمن, وهو رقم قياسي على المستوى العالمي, ناهيك عن المخابرات " الصديقة " التي كانت تسرح مع التسهيلات المساعدة, ومع كل ذلك لم تستطع هذه القوى استشعار الزلزال الذي أطاح بأعتى الأنظمة.
لعل من الضرورة الإشارة إلى أن أهم إنجازات ثورة الاتصالات والمعلومات أن تحل التكنولوجيا محل الايديولوجيا, وهذه التكنولوجيا فرضت الحداثة بشكل جديد ومفاهيم جديدة هي بالغالب ذات قالب معرفي.هذه التكنولوجيا استطاعت إعادة توصيل جسد الأمة المتقطع على الأقل من خلال الهم المشترك, وهي لا تعترف بالحدود التي أقامتها الأنظمة بين الدول, ولا بالجدران المحكمة داخل كل بلد, هذه التكنولوجيا المعرفية والتواصلية ساهمت بشكل مباشر في اشعال الفتيل وامتداد اللهب إلى كل الدول في المنطقة.
ومع سقوط مبارك تأكد, للقاصي والداني, أن رياح التغيير عصفت بالمنطقة, ولا يوجد قوة على وجه هذه الأرض يمكنها الوقوف بوجهها أو وقفها. في هذه اللحظة استجمع الغرب وإسرائيل وبقايا النظام العربي المتهالك قواهم, وكان القرار بتحويل هذه القوة التغييرية عن أهدافها الوطنية بالحرية والعدالة الاجتماعية المتجسدة بالدولة المدنية, نحو أهداف عكسية عديدة لكنها تشير نحو الطائفية والمذهبية والمناطقية, وكل ما يفتت ويشتت. وهذا بدا جلياًً في تداعيات الثورتين القائمتين في مصر وتونس وعدم تمكنهما من الوصول إلى أهدافهما, ثم تحوير سائر الثورات اللاحقة من ليبيا إلى اليمن وسورية.
لقد بات واضحاً على أرض الواقع أن الغرب وإسرائيل وبقايا النظام العربي المتهالك يقاتلون بشراسة لعدم وصول أي من الثورات إلى أهدافها الوطنية لأنها تناقض مصالحهم.لقد شكلت الثورات العربية في تونس ومصر نموذجاً راقياً استحوذ على إعجاب العالم بأسره, وفي الوقت نفسه أحدثت زلزالاً في المنظومة العربية التي أرساها الغرب قياساً على مصالحه, هكذا كانت الصورة بجلاء ووضوح حتى الأسبوع ما قبل الأخير من عمر النظام المصري.
لكن الاستدراك جاء سريعاً بالتقاط ناصية الريح الاحتجاجية العاصفة, وإعادة توظيفها في سياق المصالح الغربية القديمة – الجديدة. إلى هنا كان الأمر يبدو عادياً لكن غير الطبيعي هو لحاق ما بقي من النظام العربي إلى حد اللهاث وراء الغرب في هذا التوجه, بل مزايد عليه في تحوير مسار الثورات.
وفي جواب على هذا التساؤل يرى المراقبون أن الوهم المعشعش في حنايا الفكر لدى ما تبقى من النظام العربي المتهالك, هو الرهان مجدداً على أميركا بأنها ستساعدهم على تحييدهم عن خط سير العاصفة وتحفظ عروشهم, وهذا هو السبب المباشر في اندفاعهم ووضع كل إمكاناتهم بتصرف المشروع الغربي.
تقول الروايات إن الإشارة الأولى جاءت من قطر بإيحاء من مرشدها ومرشد "الأخوان" في العالم الشيخ يوسف القرضاوي, مفادها أن الأخوان هم الأكثرية في البلدان العربية, لاسيما في البدايتين تونس ومصر, وهم على استعداد أن يكونوا نواة النظام العربي البديل مع المحافظة على المصالح الغربية, وأهمها إسرائيل والطاقة!
هذا الطرح أنعش طموحات "قطر العظمى" التي كانت حتى الأمس القريب تحلم بموطئ قدم في الساحة الخليجية, فتعهدت هذا المشروع ترويجاً وتمويلاً,و سرعان ما وجدت شريكتها الستراتيجية في الطموح تركيا "العدالة والتنمية" فكانت أولى الخطوات أن تسلمت قطر رئاسة الجامعة العربية من فلسطين بثمن بخسٍ وانطلقت اللعبة.
معلوم أن الثورة في تونس ومصر قامت بحناجر وسواعد ودماء الشباب المستقل غير المؤدلج وبقي الإسلاميون يتفرجون ولم يساهموا بالاحتجاجات وبخلوا عليها حتى بالصراخ الذي يشتهرون به. وكم كانت النتائج الانتخابية في الدولتين بليغة الدلالة عندما نجح الانتهازيون وفشل الناجحون بالثورة, وفي ذلك تأكيد على صحة تشخيص "الأخوان" ووعدهم بالتناغم, وهذا ما ظهر بمهادنة أميركا وإسرائيل وباسترضائها حين اثبتوا التزامهم بالوعود التي أطلقوها على أنفاض الثورة. لكن الأدهى في كل هذا المشهد أن نرى "حماس" الأخوانية تبز محمود عباس عندما هجرت موقعها المقاوم لتصطف مع أخوانها "الأخوان" في طليعة النظام العربي الجديد والمأمول, حتى وصلت الى الحضن القطري قافزة من الحضن السوري!
لسنا هنا في موقع التقييم لهذا المشروع لكنها مقاربة, بل قراءة مبسطة لنتائجه المبدئية لنجد سريعاً أن التعقيدات الموجودة في المجتمعات العربية أكثر من أن تحصى, وهي لن تستطيع استيعاب مشروع بهذه السذاجة, لأن الذين روجوا للتجربة "الاخوانية" في تركيا كنموذج كانوا سطحيين بأقل تقدير نظراً الى الفوارق الهائلة بين المجتمعات العربية وتركيا.
وها هي النتائج بدأت بالظهور تعثراً في مصر وتونس وليبيا واليمن, يؤسس ربما لحروب أهلية مدمرة, أما في سورية فيبدو المشهد كارثي النتائج كما يظهر على الأرض, وهو ما تجلى أيضاً بتراجع تركيا إلى الصفوف الخلفية بعد أن كانت رأس الحربة, ولحقها الأميركيون والأوروبيون وآخرهم العرب تاركين الشعب السوري لمصيره!
بعد عام ونصف العام من اندلاع الاحتجاجات العربية وبناء على ما وصلناه من متغيرات, يمكن القول إنه ساذج أو مغرض كل من يدعي رسم صورة لما ستؤول إليه الأوضاع, وعلى أي بر سترسو, وكل ما نسمعه يدخل في خانة التخبط أو التمنيات.
وفي مشهد لافت لهذه المتغيرات جاء موقف تركيا المتحول من اندفاعة هائلة في بداية الاحتجاجات وصولاً حتى الأيام الأخيرة, عندما أطلق مهندس الديبلوماسية التركية أحمد داود أوغلوا أمام برلمان بلاده موقف تركيا القاطع : "مصممون على قيادة موجة التغيير في الشرق الأوسط, متعاونون مع حلفائنا القطريين والسعوديين لنشر الديمقراطية في المنطقة, ونحن أمام شرق أوسط جديد ينبثق وسنواصل قيادة هذا الأمر"!
لا شك أن إشهار الموقف التركي بهذه الجرأة والوضوح له دلالة على عمق الصراع وحدته على المنطقة مقابل الإصرار الإيراني على دور وحصة, ناهيك عن بوادر اختلاف بين "إخوان مصر" و"إخوان تركيا", حيث يصر المصريون على تمايزهم بالنظرة عن زملائهم الأتراك ورفض التبعية لأنقرة.
منذ ما يقرب القرن جاءت سايكس – بيكو بإسرائيل ورسمت خرائط المنطقة وفصلت لها أنظمة بغالبيتها تابعة, القليل منها استمر والكثير انقلب بعد سنوات قليلة مما سمي استقلالاً… وها نحن اليوم أمام الخريف العربي برياحه وتساقط أوراقه الصفراء, في جغرافيا طبيعية وسياسية ودينية صعبة ومعقدة, تجعل المنطقة المتخمة قمعاً واستبداداً وسوء توزيع للثروات الوطنية والقومية, أمام بركان متواصل يصعب التكهن بنتائجه أو على أي خريطة سترسو, لكنها بالتأكيد سايكس – بيكو جديدة كلياً غير التي بني عليها هذا الشرق منذ قرن سبق, والله العليم, كم إسرائيل جديدة سيتم اختراعها في الخريطة الجديدة ?
ومع إدراك صعوبة التكهن بقدرة فارضها و راسمها نجدها موزعة على ثلاث: إيحاءات الخريطة الأولى خارجية, وهي من أميركا وإسرائيل, وإلى جانبهما تركيا وإيران, والثانية ذاتية أي نتاج المتغيرات والحراك, أما الثالثة فهي متفلتة من الاثنين وقد تكون خارطة غير منسجمة ولا متجانسة وربما لقيطة لا أبوة لها.  

السابق
هولاكو الشام وعرض الحرائر
التالي
إسرائيل تعزل نفسها بجدرانها.. أو تستعد لحرب كبرى