بن بيلاّ مع الخالدين

بعد عمر مديد، شارف على قرن كامل، رحل أحمد بن بيلاّ، الرئيس الأول للجزائر المستقلة، مختتماً حياة استثنائية في منعرجاتها وتجربتها وسجونها ومهاجرها وتجربتها في الحكم. وبحكم انغمارنا في الشرق العربي، وتشبعنا بأحاسيس شرقنا هذا ومعاييره، كان يلازمنا، منذ إقصاء بن بيلاّ عن الحكم في الجزائر، ألم على الرجل منذ أن أطيح به، لا سيما وأن الذي أطاحه، هو الشاب الذي كان واحداً من طلاب الأزهر، الذين زارهم بن بيلاّ في رواق المغاربة من مهاجع الطلبة الوافدين الى الأزهر، ليحثهم على الالتحاق بالثورة، بدءاً من معسكر صغير في ضاحية عين شمس القريبة من حي مصر الجديدة في القاهرة. وكان الراحل بومدين دون سواه، الزعيم المقتدر فيما بعد، هو الذي بدأ تجربته، قبل إقلاعه عن الدراسة الأزهرية، بالعمل على مقسم الهاتف في مكتب جبهة التحرير الوطني، وحيثما كان المرحوم أبو رؤوف (جمال عرفات) شقيق الزعيم الشهيد ياسر عرفات، إدارياً متقدماً متطوعاً في المكتب ذاته. كانت صورة بن بيلاّ، بمُحيّاها المُحبّب، تمثل تكثيفاً للفرح العربي بانتصار ثورة الجزائر واستقلالها. غير أن الخائضين في تاريخ الثورة وتاريخ الجزائر المعاصر، وفي الثنايا تاريخ الرجل؛ أدركوا أن مسار الأحداث إبان الثورة الجزائرية، كانت له طبائعه وخصوماته ومحاذيره، المتأثرة بتلاوين المجتمع وحساسياته. بالتالي يعرف الخائضون في تاريخ الثورة والبلاد، أن مقتل بن بيلاّ السياسي في 19 حزيران (يونيو) 1965 كان يتمثل في نقطتين أفضت أولاهما الى الثانية: الانغماس في الشرق العروبي القومي، بالقدر الذي لا تحتمله حساسيات المجتمع الجزائري، لا سيما عندما ينم هذا الانغماس، عن نزعة إقصائية في الداخل، على قاعدة العنصر البشري بثواره العظام وعمقه الوطني، أما النقطة الثانية، فهي تركيز السلطات في يديه، لكي تنفتح الطريق أمام مشروع يستنسخ تجربة عبد الناصر، دونما اكتراث بالاختلافات بين البلدين، في تجربة الاستقلال وبنية المجتمع وتعدديته.

كان بن بيلاّ، قد فرّ من سجن البليده بأعجوبة، بعد الحكم عليه بالسجن ثلاثين عاماً، إذ كان رئيس التنظيم المسلح لـ «حزب الشعب» وقاد عملية السطو المسلح على مركز بريد وهران للحوالات المالية، لتوفير المقدرات المادية لشراء السلاح. وقد ساعده على الهرب ومعه رفيقه أحمد محساس، ومن ثم الى الانتقال عن طريق البحر، متخفياً الى فرنسا ذاتها؛ ثوار من كل الجزائر العميقة وحتى من العناصر الفرنسية اليسارية. وبعد فترة قصيرة من التنقل في فرنسا وإسبانيا، وصل الى القاهرة بعد نحو شهر واحد من قيام ثورة 23 تموز (يوليو) 1952. وعلى الرغم من وصول ثلاثة من المقاومة الجزائرية الى القاهرة، قبل تشكيل جبهة التحرير الوطني؛ إلا أن المصادفات جعلته أول من يلتقي بجمال عبد الناصر. اصطحبه جمال الى لقاء شعبي، وقدّمه لكي يتكلم، فتأثر بن بيلاّ وبكى لعجزه عن التحدث بالعربية. وتأثر الأول بشخصية عبد الناصر، لا سيما وأن الزعيم العربي، المتمتع بنظرة استراتيجية، كان يدير دفة الحديث، من خلال مترجم، الى وجهة توحيد فصائل العمل الثوري في الجزائر، وكان بادي الاستعداد لمد الثورة بالسلاح ووسائل شحنه وإيصاله، بل إنه عرض على بن بيلاّ المال. لذا أصبح بن بيلا على قناعة بأن هوية الثورة وانتماءها وفضاءها الطبيعي، هو حركة التحرر العربي القومية في الشرق حصراً. في ذلك السياق، صعد نجم بين بيلا في «الجبهة» بعد تشكيلها وتفجير ثورتها. لكن منحاه العروبي، جعله يتطير من مؤتمر «الصومام» الذي انعقد في الداخل الجزائري القبائلي، بزعامة عبّان رمضان (20/8/1956) ليضع استراتيجية الثورة وهياكلها. ولم يؤخذ بن بيلاّ الى مكان الانعقاد وظل ينتظر في طرابلس الليبية، من يأخذونه الى المكان. وتسببت تلك الواقعة، بغصة في نفسه، وبخاصة عندما بلغته أقاويل في هامش المؤتمر، عن مجافاة للتوجه العروبي. وذهبت الغصة معه الى السجن مرة أخرى، عندما قام الطيران العسكري الفرنسي، باعتراض الطائرة التي كانت تقله مع رابح بيطاط ومحمد بوضياف وحسين آية أحمد، في خريف عام 1956. لم ير النور إلا مع استقلال البلاد في الخامس من تموز (يوليو) 1962. وربما كانت ثماني سنوات من السجن بعد الاختطاف، سبباً في تضاؤل ذاكرته المتعلقة بفسيفساء المجتمع الجزائري وحساسياته، على الرغم من أن واقعة السجن الطويل الثاني، نفسها، هي التي جعلته الخيار التوافقي بين التيارات والزعماء، على أن يصبح الرئيس الأول للجمهورية.

وعندما أصبح رئيساً للجمهورية، كان هواري بومدين قد تألق عبر السنوات وصعد الى قمة الجهاز العسكري (ولهذا الصعود حكاية أخرى مشوّقة) وسُرّ بن بيلا، عندما وجد أن الطالب الذي قام بتنظيمه، هو رجل البلاد العسكري الأول. غير الدخول في الخط الإقصائي الصعب والمعقد، على أمل للوصول الى زعامة باهرة ومطلقة، أوصله الى أخطاء قاتلة سياسياً. ولما بدأ في محاولات إضعاف بومدين، واستقطاب عسكريين، وتشكيل مجموعات شعبية مسلحة تتبعه، موازية للجيش، وإظهار نزعة جهوية، أضمر العسكريون له أمراً جللاً، ينفذونه بعد انفضاض مؤتمر آسيوي إفريقي، يحضره صديقه عبد الناصر. وللمفارقة، كان استهدافه لعبد العزيز بوتفليقة الذي انتقل موقعه من وزير للشباب الى وزير للخارجية؛ سبباً في التعجيل بالأمر الجلل، والقيام بانقلاب أنهى حياته السياسية. كذلك فإن من مفارقات ذلك الانقلاب، أن من نفذه، هو الرجل الذي ظن بن بيلا أنه استقطبه عندما استحدث له منصب رئيس الأركان وأهداه مرسوماً رئاسياً، أثناء سفر الرجل القوي بومدين أب العسكريين!

أعاده الانقلاب الى السجن مرة أخرى، وإن كان سجناً في منزل مريح. لم يستطع أحد، ولا حتى عبد الناصر، أن يشفع له بغير الاطمئنان على الصحة والسلامة. أمضى خمسة عشر عاماً ولم ير النور، إلا بعد رحيل بومدين!
مضت السنون، في آفاق بن بيلا الطليق، مترافقة مع الذكرى. كان بومدين قد ملأ دنيا الجزائر وقلوب أبنائها، وظلت ثوابته نافذة وهو في قبره، بينما الحي الطليق يستعيد أيام الحلم القومي، ويتعاطى بلغته مع كل الكوابيس التي مرت وأفسدت الحلم. سلخ من العمر ما يزيد على الخامسة والتسعين، الى أن لقي ربه بعد حياة استثنائية مديدة، مخضبة بعذابات السجن، مشروخة الأحلام. وسيذكر التاريخ الرجل، الذي أصبح في ذمة الله، كثائر نذر حياته للجزائر بطريقته، وأفلت من موت عاجل مرات عدة، لكنه أسلم الروح بعد حياة مديدة، كتب فيها اسمه ودوره، في التاريخ العربي، والتحق بالخالدين!

السابق
ميِّت يرثي ميتاً..!
التالي
40 مليون$ بيد زوجة الوزير بلا رقابة