جائزة الخروج من الحياة

لا أدري لماذا حين أسمع بالجوائز الأدبية والفنية يصيبني شيء ما يشبه الحرارة المرتفعة. بالرغم من أهميتها أحياناً كي نسم مواهبنا بالشهرة والتقدير. إلا أنني أتوقف عندها كثيراً، جائزة لرواية؟ لشاعر؟ لممثل؟ لمخرج؟ إذا كان كذلك، فأنا روائية، وإن لم أكتب أية رواية بعد، لكنني "أمثل" الحياة بطريقة روائية، بلغة شاعرية، بإخراجي الخاص، في مكان خارج السرب.. ألا أستحق جائزة مثلهم؟ لست هنا بصدد الحديث عن الجائزة بحدّ ذاتها، بل عما نملكه من حياة لا نستشفّ منها قدراً شافياً لرغباتنا وأحلامنا. الجائزة جميلة، تعيدني لشعور النجمة التي صدح بها جبيني حين وضعتها لي المعلمة في الصف الرابع ابتدائي أمام جميع أصدقائي، وأومأت إليهم بأن يصفقوا لي لأني كتبت موضوعاً جيداً في اللغة العربية. أستطيع أن أبتسم الآن وأخجل كذلك حين أتذكر تلك اللحظة.

لا أخفي عنكم غيرتي من حاصدي الجوائز عن إبداعهم، غيرة دافئة، تجعلني أتخيّل كثيراً أنّي قد حققت الكثير من طموحاتي، فجئت لأكتب أشياء أخرى في مكان آخر من الوجود في زمن سيجيء يوماً ما. جمعت أشياء من أعمال الأدباء والفنانين الذين حصدوا الجوائز في الآونة الأخيرة، ولفتني شيء ما مشترك بينها، خاصة أعمال الشاعر السويدي توماس ترانسترومر (حائز جائزة نوبل 2011)، وروايات ربيع جابر (حائز جائزة البوكر العربية 2012 عن رواية "دروز بلغراد")، والفيلم الإيراني "الانفصال" للمخرج أصغر فرهادي (حائز جائزة الأوسكار 2012). يقول ترانسترومر في إحدى قصائده: "جدول الأعمال مترع، والمستقبل غير أكيد/ السلك يدندن لأزمنة مشرّدة/ ثلوجٌ تتساقط في المحيط الرصاصي/ ظلالٌ تتعارك على الرصيف/ يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت/ ليأخذ مقاساتنا. هذه الزيارة تُنسى/ وتستمر الحياة. لكن الثوب/ يُخاط بلا علمٍ منّا". وفي قصيدة أخرى: "ثمة شجرةٌ تمشي تحت المطر/ تمرّ بمحاذاتنا في الاكفهرار السائل/ لديها مهمّة: هي تسلب المطر حياته/ مثلما يسلب شحرورٌ بستاناً/ عندما يتوقف المطر، تتوقف الشجرة/ تلمع، وديعةً ومستقيمة في الليل البرّاق/ منتظرةً، على غرارنا، اللحظة/ التي ستتفتّح فيها نديفات الثلج في العالم".

وفي فيلم "الانفصال" إشارات عدّة، لم يستطع الممثلون إسكات تفلّتهم من دائرة إيران النمطية، كلهم صرخوا، كلهم بكوا، وكلهم أيضاً أحبوا. كنا معهم وكأننا في الهواء اختنقنا، وكأننا في الماء كدّرَنا الظمأ. كانت رسائل المخرج مبطنة، لكنّ طوق أبطاله لما بعد التمثيل كان واضحاً. استغلوا التمثيل ليكونوا – قدر استطاعتهم تخطي "الحدود" – أنفسهم، أو أرواحهم التي قطّرتها إيران داخل حرم البنود السياسيّة. أراد المخرج أن يسكن أجساد أبطاله، فتوزع عليهم كلهم. نادر في حرصه، سيمين في تفلّتها وطوقها للحريّة، الوالد في عجزه واستماعه، الابنة في التشتت، المحكمة في هشاشة الدين في بيئة لا تريد أن تتلقّنه، بل أن تعيشه.

أما عن رواية "دروز بلغراد" للروائي ربيع جابر، فهذه نبذة وجيزة عنها: بعد حرب 1860 الأهلية في جبل لبنان ينفى عدد من المقاتلين الدروز بالبحر إلى قلعة بلغراد عند تخوم الإمبراطورية العثمانية ويؤخذ معهم (بدلا من شخص أطلق سراحه بعد أن دفع والده رشوة للضابط العثماني) رجل مسيحي من بيروت (بائع بيض وضعه القدر في ساعة نحس على أرصفة المرفأ) يدعى حنا يعقوب. في بلاد البلقان المملوءة بالفتن ويحاولون البقاء على قيد الحياة. فأسلوبه العابر لأعماله يجعل فوز جابر بالجائزة أمراً متوقَّعاً، إذ إنه ذكر في إحدى مقابلاته أن روايته هذه استغرقت خمسين يوماً، ما يجعلنا نتخيّله كسحابة على عجل، لولاها لم نفقه الفصول.

أما عن الشيء المشترك بين الأعمال الآنف ذكرها، فهو التقاط الأطراف الموصلة بأنفاس الحياة كي يخرجوا منها – دون الموت – أحياء هانئين. واحدٌ قد خرج، وآخرون مقيّدون فيها، وآخر قد سجن! التفلّت والتوق الطافر لتدوين موقع أقدامهم في مكان يدعى الحياة. دوّنوا ومثّلوا هذه العبثيّة، ترانسترومر خرج منها لأسباب كثيرة، منها: تجلّي الشمس في معظم قصائده، وتعظيمه للأحلام، خاصة في كتابه "الصحو هو بمثابة السقوط بمنطاد من الأحلام" الذي اتسم بالطابع الخرافي، حيث يقلب الأمور رأساً على عقب، لذلك نحن نقفز من عالم الأحلام، ذلك المكان الرائع، متجهين نحو الحياة الحقيقية! وتعد الموسيقى في شعر ترانسترومر لغة أخرى موازية لشعره، تتسم بالرحمة أكثر من الكلمات. كلها كانت خروج من الحياة إلى أقصاها. ربيع جابر أسقط عبثيّته في بطل روايته حنّا يعقوب، الذي حدّته الحرب – عن طريق الخطأ – فلم يرَ الشمس ولا الموسيقى ولا أحلامه المعتادة. كان حنّا يتوق إلى ترانسترومر ربما، من قبل أن يولد، لشخص مثله، لحياة خارجه. كذلك سيمين، بطلة فيلم "الانفصال"، تركت كلّ شيء خلفها، لأن حياةً ما خارج المكان أرّقتها، فلم تستطع أن تهنأ بعيشها في حال البقاء.

كلنا لدينا حيوات خارجنا تستحق أن نعيشها، يقول عباس محمود العقاد: "أهوى القراءة لأنّ عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث". كلنا نستحق الجوائز، كلنا إذا عشنا الحياة بعبثيتها، على الشمس أو في السجن، في المنطاد المحلّق من الأحلام أو في الحريّة المكتومة الأنفاس. كلنا نريد الحياة، كلنا نبحث عن اللامكان، عن الوجود دون البقاء، عن حرياتنا في الطبيعة، نحن والله فقط، في البيوت دون تقريع صدورنا بجارنا المسيحي والدرزي والسني والشيعي.. ربيع جابر يئنّ – ربما – على حنّا يعقوب لأن الحرب كدّرته. أصغر فرهادي يصرخ لسيمين أن تعبث بالحياة السالفة وتؤدّي دوراً تُخرج الدفين من أعماقها فيه، ترانسترومر خرج.. الخروج من الحياة قبل الموت إبداع كذلك.. ألا نستحق جائزة على ذلك؟

السابق
علوش: فايز كرم عميل حتى مماته
التالي
تكريم الممرضين والممرضات في مستشفي “النبطية الحكومي”