حماية الدين من الإسلام السياسي

المجتمع هو بيئة الدين والتديّن، ولكل مجتمع متديّن أو غير متديّن، سلطة تهتم بإدارة الشأن العام. ومن الطبيعي أن تؤثر «جماعة المؤمنين» بالقيم والأعراف التي تسود فيها في إدارة الشأن العام، بيد أن الحَكم والمرجع في هذا التداخل الحاصل بين الدين والشأن السياسي لدى سائر الأمم وبخاصة أهل ديانات التوحيد: كيف تجري ممارسة الأمرين الديني والسياسي، وفي مؤسّسة أو مؤسستين. وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب واضحاً للجهتين، عندما قال تعليقاً على أحدهم: إن النص صامت، وإنما ينطق به الرجال! فالدين يتجلى في المجتمع الذي يحتضنه، وتطرأ على نصوصه بالتجربة الحوارية بين النص والمجتمع تأويلات وتفسيرات. ثم إن علياً قال رداً على المحكّمة الذين صرخوا في المسجد الجامع بالكوفة وهو يخطب: لا حكم إلا لله! فأجابهم أمير المؤمنين على الفور: قولة حق أريد بها باطل. إن هؤلاء يقولون لا إمرة، ولا بد للناس من أمير يحوط النّاس، ويقسمُ الفيء، ويجاهد العدو، وتأمنُ به السبل، ويأخذ للقوي من الضعيف، حتى يريح برّ ويُستراح من فاجر. وبذلك فانه لم يعهد للسلطة السياسية بأمر ديني. وهكذا وعلى مدى قرن وأكثر ظهرت المؤسسة الدينية المتكونة من قراء القرآن، وجامعي الحديث النبوي، والمتكلمين (= اللاهوتيين)، والفقهاء المعنيين بتنزيل النص الديني على الوقائع، ومتابعة الحياة اليومية للناس في أبعادها القيمية، والاشتراع للقضاء. وقد حاولت السلطة التدخل في الشأن الديني للمرة الأخيرة أيام المأمون العباسي عندما حاول أن يفرض على المحدثين والفقهاء الاعتقاد أن «القرآن مخلوق»! ورفض ذلك أحمد بن حنبل، مع إقراره للسلطة بحق الإمرة في الشؤون العامة. وما أنهى انتصار أحمد للتمايز وللمؤسستين ذلك التداخل بين المجالين، إلى أن نظّمه الماوردي في كتابه في الفقه الدستوري: «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» عندما حدّد مهام الإمامة (= السلطة السياسية) بأنها: حراسة الدين، وسياسة الدنيا، ثم فسّر معنى الحراسة بأنها «صون الدين على أصوله المستقرة»، أي أنها بالتعبير الحديث: حفظ حرية العقيدة والعبادة.

ولماذا نذكر ذلك كلّه الآن؟ لأن العقود الخمسة الماضية، أدخلت مفاهيم جديدة على العلاقة بين الدين والدولة، ألغت التمايز بين الدين والسياسة والعمل السياسي لدى أهل الصحوة وما صار يُعرف بالإسلام السياسي، وقالت بالحاكمية الإلهية (بحسب المودودي وسيد قطب)، أي أن الله سبحانه كلّف أهل الغيرة على الدين والإيمان بأن يفرضوا على «المسلمين الغافلين»، وعلى الحاكمين تطبيق شريعة الله في أرضه.

لقد كانت تلك الرؤية الجديدة تماماً مثار خلاف كبير بين المؤسسة الدينية التقليدية عند السنّة والشيعة، وبين الإسلاميين الجدد. لكن الإسلاميين الجُدد هؤلاء من داخل المؤسسة والأكثر لدى السنّة من خارجها (مثل الإنجيليين الجدد) كسبوا شعبية هائلة لدى الجمهور بسبب استنزافات الاستعمار والحداثة، واستبداد السلطات الحداثية وطغيانها. فمنذ السبعينات من القرن الماضي، صارت المعارضة الإسلامية العنيفة والدعوية هي المعارضة الرئيسية في وجه الطغيان في أنحاء العالمين العربي والإسلامي. وانتصرت تلك المعارضة من طريق الجماهير الحاشدة على السلطة الشاهنشاهية بإيران، وتولت المؤسسة الدينية الشأن السياسي في الدولة الوطنية الإيرانية، منذ العام 1979. ولذلك ساد لدى الإسلاميين السنّة منذ ذلك الحين الاقتناع بأن الدَور أو الدولة (بحسب التعبير العربي القديم) آتية إلى أحضانهم، وإن كانوا من خارج المؤسسة الدينية، التي اعتبروها تابعة لسلطات الاستبداد.

على أن حركات التغيير العربية التي اندلعت بعد ثلاثة عقود ونيّف جاءت من خارج الثنائية السائدة منذ عقود: استبداد/أصولية إسلامية. فالأجيال الجديدة من الشبان اندفعت الي المجال العام الخالي من خارج الثنائية المسدودة، وبالشعارات التي صارت معروفة، والتي استجاب لها الملايين في العالم العربي وخارجه: الحرية والكرامة والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. إنما بعد الموجة الأولى، انضمت الى الجمهور الشاب جماعات الإسلام السياسي، وبدأت تظهر في الشارع، وفي الانتخابات، ومعها مواريث الكفاح ضد الاستبداد لعدة عقود، لكن أيضاً مواريث المظلومية، ومفاهيم التداخل الشديد أو ضرورة استيلاء الدين على إدارة الشأن العام لتحقيق العدالة الكاملة – والدين لا يتمثل لديهم إلا في تنظيماتهم هم!.

إن الموقف في بلاد الثورات العربية ما بلغ حدّ الخطر على الدولة والدين، لثلاثة أسباب: أن الحركات الشبابية فرضت مسلماتها المتمثلة في الحرية والكرامة والديمقراطية، وعلى الجميع أن يتلاءموا – وأنّ بعض الحركات الإسلامية السياسية تخلّت أو تتخلى تدريجياً عن مسلماتها السابقة – وأنّ القوى الاجتماعية كلها مستنفرة ومتفاعلة مع العملية التغييرية، ولا يستطيع فريق أن يفرض سطوته. فالنضال مستمر إلى أن تفرض الدولة المدنية، دولة الحرية والمواطنة مبادئها وممارساتها.

لكن في هذا المخاض الكبير، هناك خوف على الإسلام ذاته، وعلى قيمه السائدة، وعلى الوحدة الاجتماعية المتحققة بسبب سواده. إن الدولة ليست في خطر، بل الإسلام الذي نعرفه، إسلام الجماعة والتضامن والانفتاح هو الذي يتعرّض للتحديات. إن هذا الظهور الشديد للإسلام ليس لصالح الدين على عكس المعتقد. إذ هناك خلط بين الدين والعمل السياسي، وهذا الخلط يشكّل شرذمة وانقساماً على مستوى المفاهيم والقيم، يؤدي إلى إدخال الدين في بطن الدولة، فتسحق معدة الدولة الهائلة الدينَ وقيمه، ويتهدد بذلك النظام القيمي للمجتمع. والأمر الآخر أنّ حركات الإسلام السياسي إن توحدت من دون أن تتحرر من موروثات الاستبداد ونقائضه، فإنها تفرض دولة دينية هي ضدّ الدين، وضدّ تقاليد الجماعة الفاصلة للدين وقيمه عن إدارة الشأن العام. لكن حركات الاسلام السياسي متعددة ومنقسمة كما نعرف، ولذا فإن خطراً آخر يتهدد ديننا، وهو خطر إدخاله في الصراع السياسي. سيقول الإخواني للناخب: انتخبني لأني الأفضل إسلاماً. وسيقول السلفي أو التبليغي أو الجهادي أو التحريري: بل أنا الداعية للإسلام الأصح! فتظهر عندنا عدة إسلامات! لذا فإن الذي أراه أن أمتنا تمر بمخاض هائل، ستقوم من خلاله وبنتيجته مجتمعات سياسية تنشئ الدولة المدنية الديمقراطية والعادلة والتعددية. إنما خلال سنوات المخاض والتقلبات يكون علينا أن نصون ديننا لتسْلم وحدة مجتمعاتنا من طريقين: العمل الجاد والنضالي لتجنيب الدين شرور الصراعات السياسية، والقيام بحركة نهضوية إصلاحية في الفكر الإسلامي، لتجاوز الخلط المُريع في العلاقة بين الدين والدولة، والذي ساد في الحقبة المنقضية.

السابق
نتنياهو.. الاسد؟!
التالي
رسائل الأسد من بابا عمرو!