كتاب التاريخ بين شباب الأحزاب

في ظل الأزمات والمشاكل التي لا تنتهي في لبنان، صارت مسلسلات "الإثارة والتشويق" تشكل الخبز اليومي على مائدة المواطن، الذي يتابع حلقاتها المتنوعة بشغف. واحدة من هذه الحلقات هي "كتاب التاريخ الموحد" في المناهج التربوية، الذي أثار مؤخرا جولة جديدة من التصريحات والتحركات، من بينها تظاهرة لطلاب من حزبي "الكتائب اللبنانية" و"الوطنيين الأحرار"، تخللتها إشكالات مع القوى الأمنية.
ومشروع توحيد كتاب التاريخ ليس جديدا، ولطالما شكّل معضلة بين الأطراف السياسية اللبنانية، المنقسمة مذهبيا وطائفيا وسياسيا. ويزداد هذا الانقسام سوءا كلما أعيد التفكير بجمع تاريخ هذه الجهات كلها مجتمعة في كتاب واحد، من المفترض أن يسهم في الإضاءة على أزمة الطائفية وما سببته من أحداث ماضية، لا تزال تجرّ ذيول آثارها الثقيلة حتى اليوم.

بالنسبة لرئيس مصلحة طلاب "الكتائب" باتريك ريشا "لا يمكن بناء مجتمع موحد من دون كتاب تاريخ موحد"، مما يتطلب وعيا بين مختلف أطياف الشعب للاتفاق حول تاريخ واحد، للاستفادة من أخطائه والتركيز على ما يجمع الأطراف كلها، لإجراء نقد بناء يؤسس للمستقبل.

وفي سياق حديثه لـ"شباب السفير"، يحصر ريشا الإشكاليات في الصيغة المطروحة لكتاب التاريخ بثلاث نقاط، تمثلت أولا بـ"تغييب مراحل تاريخية مهمة، مثل حرب السنتين في العامين 1975 و1976، والتي تعتبر بالنسبة للكتائب أول معركة صمود غيرت وجه لبنان بالكامل". النقطة الثانية هي "التحوير"، حيث "تم سرد مراحل كثيرة بتعابير محددة، أظهرت تحويرا للأحداث عبر المصطلحات". أما النقطة الثالثة فهي "الإلغاء"، إذ تم إلغاء "مقاومة بعض الأطراف اللبنانية" بحسب تعبير ريشا. ويضيف شارحا: "نحن نعترف بمقاومة الفريق الآخر، لكننا في المقابل نريد الاعتراف بمقاومتنا".

"قعدة مصالحة ومصارحة"، كان اقتراح ريشا كحل للتوافق بين الأطراف، قبل صياغة الكتاب الموحّد، وذلك في سبيل الاعتراف بالأخطاء عبر التاريخ، بغية تنقية النفوس للانطلاق بلبنان نحو مستقبل جديد.
في سياق متصل، يرى مسؤول الجامعة السياسية في"القوات اللبنانية" طوني حبشي، أن كتابة التاريخ هي مسألة علمية، إذا كتبت بموضوعية زال الخلاف. وبالتالي، فإن تعليم التاريخ أو موضوع طرحه هو محور الجدل هنا، والإشكالية تكمن بكون المقاربة لقراءة التاريخ إيديولوجية، تنطلق من خلال العقائدية بدلا من الأحداث بحد ذاتها.
وبالعودة إلى الماضي، يرى حبشي أن اتفاق الطائف قد لحظ موضوع كتابة التاريخ بروحية الوصول لاتفاق يؤمن السلام ويلغي الاقتتال بين اللبنانيين. وبالتالي فإن "اجتزاء مسألة كتاب التاريخ الذي يكتب على أساس الغالب والمغلوب يلغي روحية الطائف والتاريخ كلها".
"تحوير الأحداث" بالنسبة لحبشي، خلل جوهري في صيغة الكتاب المطروحة، إذ يعتبر هذا الأمر نتيجة "شعور سياسي آني عند من يعتبر نفسه القوي، فيكتب التاريخ انطلاقا من قوته، محاولا في الوقت عينه تغيير الأحداث التاريخية وتلطيفها لتبرير واقع حاله اليوم، وهو أمر مرفوض بتاتا".
أما في مفهوم المقاومة، فيرى حبشي أن كل جهد قام به أي لبناني، و"كل إنسان مات وهو مقتنع بأنه يدافع عن لبنان هو مقاوم، ومن حقه أن يذكر في كتاب التاريخ".

ويلتقي حبشي هنا مع ريشا على ضرورة إقامة جلسة مصارحة ومصالحة، يتخللها كلام واضح في المسائل العالقة، لتنقية الذاكرة الجماعية، حيث إن "الصمت هو عدو السلام والحقيقة".
وفي سياق مختلف، يلقي مسؤول قطاع الشباب والطلاب في "الحزب الشيوعي اللبناني" أدهم السيد اللوم على النظام السياسي الذي يقوم على المحاصصة، حتى في تاريخه. ويرى السيد أن كتاب التاريخ يجب أن يكتب بطريقة علمية واضحة، يتحدد عبرها من هو "العدو" ومن هو "الصديق"، لذا يتوجب صياغة مصطلحات محددة يتم الاستناد إليها خلال كتابة الأحداث.
مشكلة أساسية تشوب كتاب التاريخ، يلقي السيد الضوء عليها، وهي "تغييب" الأحداث الأساسية التي أثّرت في حركة التاريخ اللبناني، مثل كيفية تأسيس الجامعة الوطنية وقانون العمل والتظاهرات المطلبية وغيرها. أما الحل بالنسبة إليه، فهو الاعتماد على أسس علمية صحيحة، بمعنى أن "تتحدد المواقف من كل القضايا الجوهرية"، وهو ما يعتبره السيد أمرا مستحيلا، "في ظل وجود نظام محاصصة لن ينتج عنه إلا كتابة مشوهة للتاريخ".
ويكاد يتفق الجميع على أن المشكلة تكمن أساسا في النظام الطائفي السياسي اللبناني. فالمسؤول التربوي المركزي في "حركة أمل" حسن زين الدين، يرى أن المشكلة في طبيعة النظام الذي اكتشف أنه عاجز عن كتابة تاريخه عندما حاول ذلك، مما أضاف مادة خلافية جديدة إلى الأزمات التي يعاني منها المجتمع اللبناني.

ويقول زين الدين إن "طريقة التعاطي مع مشكلة كتاب التاريخ بسحبه من التداول، لا تعني أن التاريخ بحد ذاته قد سحب، والأزمة ستبقى قائمة، والخلاف عميق". أما المشكلة الأساسية في الكتاب المطروح، فتجسدت شكلا ومضمونا باستعمال بعض التعابير التي رفضها البعض، وتمسك بها البعض الآخر، كما يشرح، إضافة إلى المصطلحات التي "تذهب بمعنى أعمق من المعنى القاموسي للكلمة"، وهو ما شكل مادة جدلية عميقة يتوجب التوقف عندها ومعالجتها بموضوعية ومسؤولية.
"العدو الإسرائيلي هو العدو الوحيد لنا، ومفهوم المقاومة واضح"، يقول زين الدين حول النقطة التي أثارها ريشا في حديثه عن المقاومة، وتحديدا حول "حزب الله"، الذي تعذرت معرفة موقفه، مع امتناعه عن التعليق على الموضوع. لكن زين الدين يستدرك سريعا: "يجب أن نعترف أيضا بأن هناك من حمل السلاح بنية الدفاع عن لبنان، وكتاب التاريخ الموحد يجب ألا يسقط تضحيات أي لبناني في سبيل الوطن".
أما الحل المقترح من زين الدين، فيتمثل بإقامة تعريف دقيق لبعض المفردات المنسجمة مع الدستور اللبناني والتراث العربي، وبالتالي يتم التوافق على صياغة محددة للأحداث، تتسم بالهدوء والموضوعية، هذا بالإضافة إلى ضرورة عدم تغييب أي حدث تاريخي مهم.

في مقاربة تبدو وكأنها تبحث عن "حل وسطي"، يربط مفوض الإعلام في "الحزب التقدمي الاشتراكي" رامي الريس، موضوع كتاب التاريخ بفشل اللبنانيين في التفاهم على خيارات إستراتيجية وطنية كبرى، مثل هوية لبنان وعروبته ودوره في الصراع العربي الإسرائيلي وغيرها. وبالتالي فإن هذا الخلاف على هذه المفاصل الكبرى يعيق أي إمكانية جدية لـ"تحقيق اختراقات سياسية وتقدم ملحوظ، ليس في مسألة كتاب التاريخ فحسب، بل في كل القضايا الوطنية".
بالنسبة للريس، تتصل المشكلة بواقع سياسي وطائفي، لكل طرف فيه قراءته للأحداث التاريخية، وهذا التباين من شأنه أن "يستولد كتاب تاريخ هجينا ومشوها"، مما يدعو للتفكير الجدي بكيفية الحفاظ على التعددية في كتاب التاريخ، خاصة أن التشرذم الحالي، لا يشكل مناخا مواتيا لتأليف كتاب موحد يراعي الوقائع التاريخية من دون تشويهها أو تجزئتها.
من وجهة نظر الريس، ربما يكون الحل في تأجيل البحث في هذا الموضوع الآن، بغية "إنضاج ظروف سياسية ملائمة لكتابة التاريخ الذي يتسم بصفة مختلفة عن بقية العلوم، كونه مرتبطا بخلفيات المؤرخين وانتماءاتهم السياسية وقراءتهم للأحداث".
من الواضح مما سبق، أن مهمة التوصل إلى صياغة "كتاب تاريخ موحد"، ليست بالموضوع السهل. وعلى الرغم من التقاء كل الأطراف السياسية في إلقاء اللوم على الطائفية المتجذرة في النظام اللبناني على مر التاريخ، يبقى الشك قائما بقدرة هؤلاء على الخروج من قيد الماضي، ما دام الأداء الذي يحكم الجميع اليوم لا ينسجم مع ادّعاء "الانطلاق نحو المستقبل".. بل مع المقولة التي ترى أن "التاريخ يعيد نفسه".

السابق
قصّت شعرها للمرة الاولى في حياتها
التالي
ريم البنا: أريد أن أنقل فلسطين إلى لبنان وأصل فلسطينيي الداخل بالخارج