المخاوف والتحديات ترافق الاقباط بعد رحيل البابا شنودة وبانتظار الكنيسة المقبلة

يمثل رحيل البابا شنودة، بطريرك الأقباط الأرثوذكس المصريين، فقدانا لقيادة روحية وزعامة ذات وزن سياسي، في لحظة تاريخية تواجه فيها مصر ارتباكا شاملا، تعاني منه مختلف المؤسسات وبما في ذلك المؤسسة الدينية بشقيها الإسلامي والمسيحي.

ومع الصعود الديني السياسي الإسلامي الكبير في الاونة الاخيرة والذي يشكل قلقا قبطيا عظيما في شأن أوضاع الأقليات الدينية في بلد يروج فيه خطاب "التفوق الديني" وتتصدره اتجاهات ذات طابع طائفي، يقول بعض رموزها إنهم سيعفون الأقباط من فرض الجزية تكرما، وتعرضت فيه عائلات قبطية إلى التهجير من أماكن سكنها عقابا من أنصار اتجاهات سلفية بعد تحكيم عرفي رفض الرضوخ للقانون.

بوفاة البابا شنودة، اعترى الأقباط قلق مبرر إضافي ليس له علاقة فقط بقيمة ومكانة الراحل الروحية، وإنما لأن موته جاء في لحظة تفاوض سيخوضها المجتمع على صياغة دستور الدولة الجديد، بينما الكنيسة في لحظة اختيار رأس جديد، وستستغرق وقتا في عملية الاختيار، وربما ينقضي الوقت وتنتهي عملية كتابة الدستور قبل أن تكون قد استقرت على بطريرك جديد وفقا للترتيبات الروحية والقانونية اللائحية المتبعة.

في السنوات الأخيرة، عانى البابا شنودة من الأمراض ما دفعه إلى تقليل جهده والسفر المتتالي لتلقي العلاج في الولايات المتحدة، إلا أنه رغم تلك المعاناة كانت له السيطرة الروحية على شؤون الكنيسة، بحيث لا يمكن الخروج عن تعليماته المستندة إلى قيمته التاريخية ومكانته الدينية وتأثيره السياسي. لاريب كذلك أنه سيكون من الصعوبة بما كان أن يستطيع بطريرك جديد بناء المكانة التي استطاع البابا شنودة أن يصنعها طوال 40 عاما له في كرسي البابوية.
اذ استطاع البابا شنودة أن يخضع الكنائس المهجرية لقيادته الروحية، عبر تولي شؤونها من قيادات دينية يختارها هو من القاهرة، حيث مقر الكنيسة الأرثوذكسية، أو من خلال رحلاته الرعوية المتكررة سنويا في اتجاه كنائس الولايات المتحدة وغيرها.

بالإجمال، فإن قداسة شنودة الثالث يغادر كرسي البطريركية، تاركاً خلفه التحديات التالية:

ـ مجتمع مسيحي يواجه تحدي التيارات الدينية الإسلامية المتطرفة.
ـ كنيسة تواجه تحدي تعدد الأصوات من حول كرسي البطريرك، الذي قد لا تكون له فيما بعد السطوة الأبوية نفسها.
ـ كنيسة ليست لديها السيطرة الكاملة – على الأقل سياسيا – على كل مفردات مجتمعها المسيحي، خصوصا أجيال الشباب.
ـ جماعات مهجرية ضاغطة على الكنيسة المحلية بنفس قدر ضغطها على الدولة.
ـ أصوات علمانية مسيحية ترفض سطوة الكنيسة على الحياة المسيحية بكل تفاصيلها، وتريد أن يقتصر تأثيرها على البعد الروحي فقط على أن يدير الأقباط حياتهم العامة بعيدا عنها.

وتتعاظم أهمية تلك التحديات في أنها ستكون مؤثرة على أداء الكنيسة وفقا لمن سيكون هو البابا القادم، بخلاف أن هناك عاملين جوهريين يفرضان نفسيهما على المؤسسة الدينية المسيحية:
– أولا: إن ملف الكنيسة في عصر مبارك كان خاضعا للاعتبارات الأمنية والعلاقة بين الكنيسة وجهازي أمن الدولة والمخابرات قبل غيرهما من المؤسسات. وهو الوضع الذي ليس فقط لم يعد مقبولا وإنما لا توجد أدوات حالية للاستمرار فيه بعد الضربة التي تلقاها جهاز أمن الدولة عقب 25 يناير ومضي المخابرات في اتجاه يتباعد بها عن مجريات التفاعلات السياسية الداخلية. إن هذا هو ما يطرح تساؤلا حول من الذي سيكون بيده الملف في الدولة المصرية الجديدة، وهل سيترقى من كونه أمنيا إلى أن يكون سياسيا وثقافيا، أم سيبقى على ما كان عليه، والأهم كيف ستريد الكنيسة الجديدة أن يكون تعاملها مع هذا الملف؟

– ثانيا: إن البابا رحل في لحظة عصيبة يمر بها المجتمع كله، وبينما يستعد البلد لصياغة دستور جديد، وفي حين تثور مشاعر قلق لدى كثيرين في شأن توجهات هذا الدستور الجديد والخشية من أن تمسك بتلابيب توجهاته التيارات الدينية الإسلامية الصاعدة، فإن الأكثر قلقا هو المجتمع المسيحي نفسه الذي لا يعرف من الذي سيكون صوته في مفاوضات الدستور، وهل سيكون هذا الصوت قادرا على أن يحدث التأثير الذي كان للبابا الراحل؟

إن كل هذا سيحدد ملامح الكنيسة المقبلة بعد رحيل البابا شنودة، وإلى أي مدى ستظل قائدة للمجتمع القبطي المصري. وإذا كانت هناك تخوفات لدى البعض من أن تتعرض للتفتت بعد غياب شخصية قائدة مثل البابا شنودة، فإن تلك التخوفات ليست لها قيمة من الناحية العملية أو براهين تؤكد عليها، غير أنه في ظل استبعاد احتمالات التفتيت البنيوي للكنيسة كمظلة دينية عامة، لا يمكن استبعاد حدوث نوع من التفتيت المعنوي.

السابق
المعارضة البحرينية من بيروت تطالب الأمم المتحدة بخطوات جادة لاخراج القوات السعودية
التالي
حزب البعث.. جرائم بلا حدود