كيف تجرأ الشيخ الأسير على انتقاد الشيخ سعد؟

يُروى أنه حين قررت الرياض تكريس رفيق الحريري مرجعية لكل «فروعها» اللبنانية، جعلته العنوان الحصري أو الوكيل الوحيد المعتمد من قبل العائلة السعودية لأمرين اثنين: المال والموعد. المال لجهة المساعدات والهبات والمخصصات على أنواعها. والموعد لجهة استقبال أي لبناني في أي قصر سعودي. كان هذا منتصف الثمانينات. أبلغ الجميع بالأمر المستجد وتم الالتزام به. ويروى حتى كيف أُفهم الحريري بأن استثناءين اثنين لاحتكاره سيتم الإبقاء عليهما بصورة موقتة: الأول لمؤسسة تربوية عريقة، حتى غياب راعيها. والثاني لشخصية لبنانية مقيمة خارج لبنان، على علاقة خاصة بأحد القصور السعودية. أما الباقي فيمر عبره، وقتاً ونقداً، فصارت الزعامة بلا منازع، ولو قبل أعوام من تكريسها سياسياً وحكومياً.
شيء مناقض تماماً يحصل اليوم. لا لأن السعودية عادت عن حصريتها. بل لأن جهات أخرى قادرة دخلت على الخط. أبرزها اثنتان، ابو ظبي وقطر. ففي الأعوام الأخيرة، ولأسباب أميركية وأخرى سعودية حتى، وبعضها لأسباب لبنانية من نوع التحايل أو التمويه، طُلب من أبو ظبي مراراً المساهمة في تمويل جهات لبنانية عدة. فنشأ خط اتصال بينها وبين أكثر من طرف لبناني ممن كان مرتبطاً حصراً بالجدول الشهري السعودي الحريري. ثم بعد انهيار الأسواق المالية، وضمور بعض المواقع المصطنعة، وخصوصاً تراجع دبي وتقدم أبو ظبي لإنعاشها ووضع اليد على الكثير من مرافقها ومفاصل القرار فيها، كبرت الفكرة في رأس البعض هناك. فلم يتم الاكتفاء بالمزيد من الإمساك داخل الإمارات وحسب، بل بدأ التوسع في ممارسة سياسات النفوذ حتى لبنان وداخلياته.
من جهة ثانية، ومع اندلاع الأحداث في سوريا، والتموضع المستجد لجزيرة الدوحة و«جزيرتها»، انتقلت مزاريب التمويل القطري بدورها من جهة الى أخرى، مع إبقائها على أكثر من خط سابق، يؤكد العارفون، في مفارقة لا يفهمها إلا من يدفع ومن يقبضون. لكن المؤكد أن قطر صارت مصدراً ثالثاً لتمويل مكونات فريق لبناني، موحد في الشكل تحت عنوان المعارضة اللبنانية منذ كانون الثاني 2011، وموزع في الواقع بين خصوصيات وحسابات و«حسابات».
ويلاحظ العارفون مفارقة أخرى على هذا الصعيد، بين مسيحيي المعارضة وغير مسيحييها. ففي الجانب المسيحي المعارض تم حصر الاعتمادات المالية لدى «حزب» واحد رغم تعدد مصادر التمويل الخليجية. إذ تم تجميع المزاريب السعودية والإماراتية والقطرية عند وكيل حصري وحيد، مع استثناءات محدودة لصالح شخصين أو ثلاثة، وطفيفة جداً لجهة المبالغ المستثناة من المركزية المالية المسيحية، بحيث بات على جميع المكونات المسيحية داخل المعارضة تقاضي مخصصاتها الشهرية من قبل الوكيل الحصري المعتمد.
ويروي أحد العارفين كيف أنه حين كشف جفري فلتمان امام إحدى لجان الكونغرس عن دفعه 500 مليون دولار على جماعاته في بيروت، سارع أحد ظرفاء مسيحيي المعارضة الحالية إلى الاتصال بزميله قائلاً: سمعت فلتمان؟ هناك نصف مليار دولار؟ أين حصتي؟ فرد الزميل الآذاري المسؤول: يبدو أن جيف سجل لك حصتك زفت مش كاش…
وكأن التمويل الخليجي طبّق في هذا المجال قاعدة الأحوال الشخصية عندنا، فأقام «وكيلاً مالياً حصرياً لغير المحمديين من المعارضين»، ليطبق لدى الآخرين لامركزية مطلقة، كل يفتح على حسابه، خصوصاً الجهات الأصولية، والتي تفلَّت تمويلها من أي ضبط أو تقنين حتى بلغ الأمر حد الفوضى التنظيمية المطلقة، لكنها استمرت مقبولة أو «خلاقة»، حتى ظهر عنصر جديد، اسمه الخلافات المعلنة في السياسة لدى مصادر التمويل وفي ما بينها، فالاتفاق على المعركة السورية لم يكف على ما يبدو لطي الخلاف الوهابي – الوهابي بين الرياض والدوحة.
قطر تستعين بسلاحها «الشرعي» عبر القرضاوي، لتفرض نفسها مرجعية لثورات المنطقة، فترد السعودية بسلاحها المقابل، عبر المفتي عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، للمهمة الطربوشية نفسها. والمفارقة أن التنافس بين الاثنين يتمثل في مزايدة تكفيرية لا غير. القرضاوي يضرب في الأقباط، فيرد الشيخ بهدم كل الكنائس.. لكن فجأة اضيف الى السباق الأصولي القطري- السعودي، دخول ابو ظبي أيضاً على الخط: مشكلة مع القرضاوي من جهة، حتى التهديد بتوقيفه، ومشكلة من جهة أخرى مع السعودية حتى صدور تصاريح إماراتية، من نوع أن «الفكر السعودي الوهابي من أقبح وأنكر الأفكار على وجه الأرض»، وأن «دولة الإمارات تعاني من الإمكانات السعودية الهائلة في تصدير أفكارها الشاذة».
لامركزية خليجية انعكست في لبنان تعددية جهادية متفلتة من أي أطر، حتى بات الشيخ الأسير ينتقد الشيخ سعد علناً. لم يعد أي إسلامي أسيراً لحصرية التمويل أو التحليل، فبعد الربيع في الثورة، إنها العولمة في النمو…
  

السابق
أيتها الممانعة كم ارتكبت باسمك من جرائم!!
التالي
إهدأ قليلاً