كارثة بور سعيد

كأنما أُريد للحدث المصري المروّع، في بور سعيد، أن يضرب مجموعة من الرمزيات الوطنية دفعة واحدة، وأن يؤسس لمحاولة خلق حالة من الذعر الاجتماعي، ومن التباغض الذي يطفو على سطح الحياة، بينما تنطمر معاني التساند الشعبي على مر التاريخ، والعلامات البارزة في حياة المصريين وتقاليدهم.

أولى الرمزيات التي استهدفها مفتعلو الحدث المأساوي، تمثله بطولة بور سعيد كأمثولة تتصدر مأثرة التصدي للعدوان الثلاثي في العام 1956 لكي يُصار الى استبدال مدلول بور سعيد في الوعي الشعبي، بمدلول آخر ذميم ومرير، لدى سواهم من إخوتهم في محافظات أخرى، قوامه التسبب في مذبحة لشباب مصريين. وثاني تلك الرمزيات، تمثله وقائع التكامل بين محافظات مصر، على صعيد فعاليات ثورة 25 يناير. فقد جاء على لسان البعض، في سياق شرح وقائع المأساة؛ وصفاً لسكان بور سعيد باعتبارهم “شعب بورسعيد” وذلك على النحو الذي يؤشر الى محاولة لـتأجيج نعرات مناطقية، تفكك وحدة الوجدان الشعبي، وتصطنع للمناطق، أمزجة وأهدافاً ونوايا، من شأنها الوصول بالسلم الأهلي الى شفا الهاوية.  
ولعل من بين المستهدف، في السياق نفسه، جدارة المؤسسة الأمنية وأهليتها للاضطلاع بمهمتها العسيرة، وهي إعادة فرض النظام العام، الذي يرتهن له مصير البلد. وفي خلفيات هذه المحاولات كلها، هناك لدى المتسببين في المأساة، دافع الذعر من فوز الإسلاميين، وبالتالي هناك محاولة لتفجير الساحة، قبل أن يبدأ حكمهم، بموجب نتائج انتخابات نزيهة. فالقوى الإسلامية، في تقديرات هؤلاء، إن لم تكن ذات رغبة جامحة في الاقتصاص من “فلول” حكم مبارك، فعلى الأقل ستكون ذات تصميم مضمر، على أن تفعل ذلك بعد “التمكين” الكامل!

يكاد تحليل المهتمين بالشأن العام في مصر، من نواب وإعلاميين يتوافق على أن الحدث المروع مفتعل. وتؤيد هذا التحليل شهادات الحاضرين وتفصيلات الوقائع، بل تؤيدها الخطوط العامة للحدث، من حيث أن الهجوم على مشجعي النادي الأهلي ولاعبيه، جاء على الرغم من خسارتهم للمباراة. أي لم يكن هناك سبب للحنق بسبب الحيثية الرياضية، بينما يفترض أن المكان والجموع المحتشدة، لا علاقة لهما بشيء غير الرياضة. والمتزيدون في شكوكهم حيال المجلس العسكري، يذهبون الى القول في الحد الأدنى، إن مدبري الكارثة، يريدون لهذا المجلس أن يجد نفسه مضطراً للإعلان عن حال الطوارئ التي تعلق الحياة السياسية، ويرون أن هذا الحال، هو الذي من شأنه الحفاظ على ملف محاكمة الرئيس السابق مبارك، ضمن حدود أوراقه ومفرداته، وحيث نص الادعاء العام، ونصوص محامي أهالي الضحايا، تتعرض لمداخلات قوية من محامي المتهمين، فتحي الديب، وبالتالي فإن استمرار العملية السياسية، من شأنه أن يعيد صياغة الطريقة التي تجري بها المحاكمة، أما ضرب هذه العملية، فإنه ـ وفق تصور مفترض لمفتعلي الكارثة ـ سيؤدي الى إبقاء سياق المحاكمة في حدوده الراهنة، التي لم تصل الى جوهر الصياغة البديلة، لاتهامات سياسية على النحو الذي كتبه محمد حسنين هيكل مثلاً!

الآن يتعين على مؤسسة الأمن في مصر، إظهار مستوى أعلى من الفاعلية والجاهزية، خصوصاً في نقاط الاحتشاد الشعبي، التي يمكن استغلالها وحرف وجهتها، ومن بينها مناسبات الملاعب. ففي بريطانيا هناك فرع أمني ورقابي خاص، لرصد توجهات الجمهور في الملاعب وحتى قبل التحاق المتفرجين بالمدرجات. وهناك فرقة خاصة في كل محافظة بريطانية، للرقابة على الانترنت، وتكثيف التركيز على زعماء المشجعين The ring Leaders لاستباق أية فعاليات شغب يقومون بها، ويحدث أحياناً، أن تدهم الشرطة بموجب قانون احترازي، بيوت بعض زعماء المشجعين وناشطيهم، أو يستدعى هؤلاء لفرض إجراء رقابي عليهم، فيمنعون من حضور المباراة قبل موعدها بشهر أو أقل قليلاً. إن هذا يحدث في بلد ديموقراطي بامتياز. فلو حدث في بور سعيد شيء من هذه التدابير، لأدركت أجهزة الأمن طبيعة ما ينتظر ستاد النادي المصري في بور سعيد.
إن ما يتهدد مصر من مخاطر، يتطلب الترافق بين معالجات السياسة والأمن، وفق ما يتلاءم مع الدستور، حفاظاً على النظام العام ولإعادة الحياة الطبيعية للمحروسة، لكي تنطلق مصر الى أفق الحرية والتصدي للأزمات المزمنة. 

السابق
سورية: مواجهات الخارج والداخل
التالي
خريس: الوضع لا يطمئن وعلى الجميع التضحية