لبنان… وتزوير التاريخ !

الأكيد ان لبنان لا يحتاج الى إعادة كتابة تاريخه بواسطة حكومة «حزب الله» التي يرأسها الرئيس نجيب ميقاتي. اللهم الاّ اذا كان المطلوب شرح المراحل التي مر ويمر بها الوطن الصغير منذ «ثورة الارز» والتي جعلته ينتقل من الوصاية السورية الى الوصاية الايرانية وكيفية حصول ذلك عن طريق توجيه السلاح المذهبي الى صدور اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق.
سيحلّ موعد اعادة كتابة تاريخ البلد، من دون تزوير من ايّ نوع كان، لدى توافر ظروف طبيعية وليس في ظلّ حكومة شكّلها حزب مذهبي مسلح. سيكون ذلك على اسس مرتبطة بثقافة الحياة اوّلا وثقافة المقاومة الحقيقية ثانيا واخيرا، وهي المقاومة التي ترفض السلاح غير الشرعي والتي اخرجت القوات السورية من الاراضي اللبنانية في العام 2005.

ولكن قبل ان يصبح ذلك ممكنا، من المفيد الاهتمام قليلا بالجغرافيا. وهذا يعني، في طبيعة الحال، الاصرار على ترسيم الحدود مع سورية انطلاقا من مزارع شعبا الجنوبية التي احتلتها اسرائيل في العام 1967 عندما كانت تحت السيطرة السورية. فترسيم الحدود، بما يصبّ في مصلحة سورية ولبنان والشعبين السوري واللبناني، هو ما تطالب به المعارضة السورية، ممثلة بـ«المجلس الوطني» التي تمثل حاليا اوسع الفئات الشعبية في سورية والتي تجاهد من اجل الانتقال بالبلد الى مرحلة جديدة. مرحلة وئام بين البلدين الشقيقين تسود فيها لدى الجانبين قناعة فحواها ان ازدهار بيروت من ازدهار دمشق وازدهار دمشق من ازدهار بيروت وليس من تدميرها. ما قد يكون اهمّ من ذلك اقتناع النظام في سورية، اي نظام فيها، بان الانتصار على لبنان ليس بديلا من الانتصار على اسرائيل وان الدور الاقليمي الواسع والمتعدد الجانب لسورية ليس اكثر من وهم في غياب نظام طبيعي في هذا البلد المهمّ…

في حال كان مطلوبا اجراء تقويم للمرحلة التي يمر بها لبنان وسورية هذه الايام، فالواضح ان الوقت ليس وقت «تهريب» كتاب جديد للتاريخ يدرّس في المدارس بهدف نشر ثقافة الموت وتغيير طبيعة المجتمع اللبناني المتنوع ولا شيء غير ذلك. فالمرحلة الراهنة هي مرحلة انبعاث الحياة مجددا في لبنان واعادة الاعتبار الى الوطن الصغير. انها ايضا مرحلة التغيير الكبير في سورية.

سيعيد التغيير سورية الى السوريين عاجلا ام آجلا. سيسمح هذا التغيير بعودة سورية الى الحضن العربي الدافئ بعد غربة استمرّت سنوات عدة كان مطلوبا فيها ان تكون سورية خنجرا في ظهر كلّ ما هو عربي في المنطقة بدل ان تكون سندا للبنانيين والفلسطينيين والعراقيين واهل الخليج العربي الذين يتربص بهم النظام الايراني ذو المطامع المكشوفة والذي يرفض الاعتراف باحتلاله ارضا عربية هي الجزر الاماراتية الثلاث… حتى لا نتحدث عن امور اخرى في سورية ولبنان والعراق.
نعم، ان المجتمع الدولي في مرحلة اعادة الاعتبار الى لبنان وتجربته. يدلّ على ذلك اختيار الامم المتحدة لبيروت مكانا لانعقاد مؤتمر «اسكوا» وهي الهيئة التابعة لها والتي تهتم بشؤون المنطقة. جاء الامين العام للامم المتحدة بان كي مون الى بيروت وقال الكلام الذي يجب قوله عن الشرق الاوسط والربيع العربي، خصوصا في ما يخص سورية والثورة الشعبية فيها والنظام البائس الذي يعتقد ان هناك حلولا امنية تسمح له بمواجهة شعب قرر استعادة حريته وكرامته وتاريخه الحضاري.
لم تمض ايام على مؤتمر «اسكوا» حتى انعقد مؤتمر آخر في لبنان عن الربيع العربي والتعددية والتغييرات التي يشهدها الشرق الاوسط. نظم المؤتمر حزب الكتائب اللبنانية مع «اتحاد الاحزاب الديموقراطية الوسطية» وهي احزاب حاكمة في غير دولة اوروبية بينها المانيا وهنغاريا على سبيل المثال وليس الحصر.

عادت بيروت منبرا حرّا على الرغم من كلّ الضغوطات التي تمارس على اللبنانيين. لم يتردد الرئيس امين الجميّل في قول كلام جريء عن الثورات العربية وعن «اننا سعداء برؤية الشعوب تنتفض ضد الديكتاتورية على امل بلوغ رحاب الحرّية والديموقراطية والمساواة. انها تلتقي مع التجربة اللبنانية وتؤكد صحة رهان اللبنانيين على هذه القيم في هذا الشرق المتوسطي العربي». اطلق رئيس حزب الكتائب، وهو رئيس سابق للجمهورية اللبنانية تعرّض لظلم كبير، «شرعة – اطار للثورات العربية والانظمة المقبلة». ركّز على «الدولة المدنية» و«دولة القانون» وعلى ان «الانسان هو الرجل والمرأة» وعلى «انّ لا مشروعية لأي مقاومة لا تصب في مشروع بناء الدولة ومؤسساتها».
كانت هناك كلمات أخرى لمسؤولين حزبيين أوروبيين وعرب وأتراك. ما يجمع بين كلّ الكلمات الاعتراف بأن العرب فاجأوا العالم وان على العالم اعادة اكتشاف العالم العربي وان للبنان دورا رائدا في مجال نشر ثقافة الحياة والاعتراف بالآخر في المنطقة وتكريس الدولة المدنية.
بعد أكثر من عقدين على سقوط جدار برلين وبعد عقدين تماما على انهيار الاتحاد السوفياتي، جاء دور التحاق العرب بالمفاهيم والقيم المتعارف عليها في العالم الحضاري. على رأس هذه المفاهيم الديموقراطية وحقوق المواطن بغض النظر عن دينه وعرقه و «حقّه الطبيعي في العيش من دون تمييز فردي او جماعي» على حد تعبير امين الجميّل.

لم يكن المؤتمر اعادة اعتبار للبنان فحسب بل كان ايضا إعادة اعتبار لقيم تنادي بها الثورات العربية وتدور كلّها حول قيمة الانسان وحقه في العيش الكريم. كان هناك شعور لدى معظم المشاركين بانّ لبنان المقاوم سينتصر في نهاية المطاف، لا لشيء سوى لانه يمثّل الامل.
لا يمكن لثقافة الحياة التي تجسّدها «ثورة الارز» الاّ ان تنتصر على ثقافة الموت حتى لو مرت بعض الدول العربية بمراحل انتقالية، كما حال مصر حاليا، حيث يوجد حاليا «عدد كبير من المصريين الراغبين في اقامة دولة مدنية، لكن الغالبية الجديدة في البرلمان تمارس طغيان القوة وترفض التحاور مع سائر الافرقاء» على حد تعبير السيد نجيب ساويرس، رجل الاعمال المصري والعضو المؤسس في الكتلة المصرية الليبرالية.
شيء ما يتغيّر في المنطقة انطلاقا من لبنان. من كان يصدّق يوما ان لبنان سيستعيد بفضل مقاومته الشعبية دوره الاقليمي في مجال نشر ثقافة الحرية والانفتاح…ثقافة الحياة اوّلا!  

السابق
ما الذي تريده حماس؟
التالي
تنظيم احتفال مركزيّ