إننا نتَّهِم!

نستعير العبارة من إميل زولا وكل من كتبها في الأيام الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي، لا لنرفع إصبع اتهام، فنحن لا نملك سوى كلمات نعتبرها سلاحنا الأمضى في المواجهة، لنكتشف مراراً وتكراراً انها غالباً ما تعجز، وعقمها أفدح من عجز الدمع عن بلسمة مأساة.
نستعيرها لنلوم أنفسنا قبل الآخرين، وحقنا في لومهم كبير، وهو حسابٌ تراكم عقوداً بعمر المبنى المنهار في الأشرفية، وله قصص وروايات بعدد حكايا كل من فقد أماً وأباً ورفيق درب وحاضن روح وأخاً… أو أكثر. نستعيرها مضبَطَةً مكبّلة، أقفالها الحاضر الذي استحال ماضياً، وانعدام القدرة على التحكم بساعة الزمن الذي يمضي (ويهوي) من دون ان يسأل البؤساء في دربه عما اذا عقدوا العزم على الرحيل. يأتي الوقت والساعة يحددها مجهولٌ يحضر بسرعة الحجارة المتهاوية على رؤوس الآمنين. أين للمرء عزاءٌ أكثر من غرفة نومه؟ أين يحمي حياته بحلوها ومرّها وأساها وفرحها، اذا ما أضحت حيطان مساحته الخاصة غير مرحِّبة به؟

نستعيرها عيناً تسأل عن مراهقة لا تدرك خبايا الكبار، أمِنت لسرير يقيها برد الخارج، وعن توأمٍ تنسج فوق سرير المستشفى أملاً في ان يقبع خارج باب الغرفة، رجاءُ عودة النصف الثاني من الروح. نستعيرها يداً ارتجفت من اهتزاز الأعمدة، وأذناً هالها صوت الباطون المتهاوي. نستعيرها حنجرة صرخت طوال الليل علّ منقذها يسمع. نستعيرها عقلاً سأل في عتمة الليل وظلمة القدر "أين أنا؟ ماذا جرى؟". نستعيرها عجزاً عن الاجابة، وانقباضاً غارقاً في التفكير. هذه حالنا ولنا ان نتعايش معها، رغم اننا اكتوينا بأمل لا شفاء منه، في ان الغد الآتي هو لنا قبل الآخرين، وستحدد معالمه ذكرياتنا وأحلامنا وتجاربنا وما تعلمناه على درب جلجلة يومي حسبنا انه لن ينتهي، واليأس لمّا يتملكنا بعد. عنادنا اننا جيل لا يهادن، ولا يريد ان يستسلم. يئسنا من عدم الاستسلام. نربى مع اليأس حتى لم يعد عائقاً. أضحى أسانا دافعنا للهجوم، وقول الأمور كما نراها. نتَّهِم ولا قدرة لنا على رفع دعوى ضد مجهول. لم يعد ثمة "مجهول" في هذا الوطن. كل مسؤول مشروع متَّهم، وكلهم مدانون حتى تثبت براءتهم. إننا نتَّهِم مالِكاً لم يأبه لأرواح مستأجريه سوى بعد فوات الأوان، ومسؤولاً كل همّه رفع المسؤولية عن كاهله وأكتاف مساعديه، وممثل أمة انتظر حتى ما بعد وقوع الكارثة للتلويح بـ 20 ألفاً أخرى تنتظرنا. إننا نتّهم متعهداً قاده الجشع الى ألا يمنح الهواء متنفساً بين مبنيين، ورأى في "ناطحة سحابه" حوتاً يحق له ابتلاع الأسماك الصغيرة. إننا نتّهم كل من يطالب بعد وقوع الواقعة بتوفير التجهيزات، ولا يكرر طلبه في اليوم التالي. إننا نتّهم كل من رأى في سقوط الضحايا فرصة ليطل على الاعلام ويتحدث، بدل ان يصمت ويحاسِب. إننا نتّهم كل من ميّز بين الناس، وحمّل القاطنين مسؤولية سقوط السقوف على رؤوسهم. إننا نتّهم كل مرتشٍ لا يشبع، ومتحكِّمٍ لا يشفع. إننا نتّهم كل من لم يتحمّل مسؤوليته يوماً، وكل من لم يفكّر في الاستقالة بعد كارثة بحجم وطن. إننا نتّهم كل من لم يفضح ما يرى، وتغاضى عما يعرف. إننا نتّهم كل من يضحّي بروح، ويعوّضها بالمال. إننا نتّهم كل من لم يدخل السجن وهو مدان، وكل من أخرج منه مجرمين. إننا نتهم كل محتكر لا يشبع، وكل زعيم لا ينفع.

كتب الأستاذ غسان تويني من خلف قضبان سجل الرمل عام 1973: "بقيَت، في السجن، حسرة واحدة… انني لم أجد هنا، بين البؤساء، ولا واحداً من الذين صنعوا بؤس الشعب… لم أجد محتكراً واحداً! لم أجد واحداً من الذين يتاجرون بحياة المواطنين، بخبزهم، بالماء، بالدواء، بالرز، بالسكر، حتى بالرمول والبحص، ناهيك بالخشب والحديد، وبكل شيء يأكله الفقير أو يعمّر به بيته! ولم أجد أخيراً ولا واحداً، ولا واحداً، من الذين رأيت أصابع الاتهام تتوجه اليهم حيثما توجهت"… إننا نتّهم كل من لم يغيّر مآسينا منذ 39 سنة. 

السابق
حسين عتريس الموقوف في تايلند.. لا علاقة لحزب الله به
التالي
الان عون: لا معركة في موضوع الأجور