هدنة تاريخية على حافة الضياع

يعيش اللبنانيون في ظل هواجس وطموحات ومشاريع سياسية مختلفة. لم يعد خطاب أي زعيم أو حزب لبناني يتجاوز حدود طائفته. هذا أمر يجب أن يعرفه أصحاب الشأن ويفهموا أنهم يستقطعون البلد وأهله ويحملونه ما لا يحتمل من شهواتهم السياسية والنفعية.

حمل اللبنانيون في الماضي ويحملون اليوم قضايا وطنية وعربية وإنسانية، وحملوا طموحات لها كل المشروعية والمصداقية لكن أحد أسباب إخفاقهم تلك الفجوة العميقة بين الفكر والممارسة، بين المشروع وأدوات تحقيقه، بين الخيال والواقع. قضايا الديمقراطية والعروبة وفلسطين لا يختلف فيها عاقلان في المبدأ إلا القلّة القليلة من أصحاب المصالح الضيّقة. انقسم اللبنانيون فيها وحولها طوائف وأحزابا وصار لأعدائها جمهور يجاهر برفضها، وقد صار يتطلع إليها كمطايا لأهداف فئوية أخرى. جرّب اللبنانيون سياسة القوة والاستقواء فأفشلوا مشروعهم الوطني وخسروا إرثهم الإنساني التقدمي وذهبوا صاغرين إلى طوائفهم يحتمون بشرعيتها البدائية وينسجون حولها الأساطير والأوهام. كذب اللبنانيون على أنفسهم لكي يتجرّأوا على العيش متجاورين كقبائل طائفية متناحرة. اخترعوا خرافة العيش المشترك وجعلوا منها قيمة حضارية إنسانية. حولوا خوفهم وقلقهم من حروبهم المستمرة إلى حداء العابر بين القبور الموحشة. كان على اللبنانيين أن يجدوا حلولاً واقعية لمواجهة المستقبل لا أن يهربوا إلى الماضي، إلى ما قبل الكيان والدولة والنظام الديمقراطي.

تغيّر العالم من حولنا ويتغيّر محيطنا القريب اليوم وما زلنا نتصرف بأفكار الماضي ونتمسك بخيارات لا تخدم تقدمنا الإنساني. فلا القبضة الأمنية العاتية تؤمن استقراراً لأي نظام تعتمل فيه التناقضات الاجتماعية والطائفية، ولا الانعزال الطائفي يؤمن حجب النار المشتعلة على حدود كل الكيانات، ولا تأصيل ثقافة الطوائف وتصليب عودها يؤمنان صد الهجمة الأصولية المنتشرة في المجتمع قبل ان تصير جزءاً من السلطة أو السلطة كلها.  أقفل عدّاد القرن الواحد والعشرين على المليارات السبعة من البشر وعلى ما يتزايد من صناعة الإنسان الالكتروني فضلاً عما تعد به الكواكب الأخرى، وما يزال اللبنانيون يمارسون طقوسهم السياسية وكأنهم خارج الزمن. يعيش الناس بأوهامهم وهذه حقيقة معروفة، لكنهم لا يستحقون عندها ان يحصلوا على الحقوق ذاتها كغيرهم. فإذا كان اللبنانيون يعجزون عن إيجاد وسيلة للعيش معاً كبشر متساوين فعبثاً يطرحون على العالم قضيتهم وان ينتظروا من الآخرين احتراماً لحقوقهم وكيانهم وحتى آدميتهم. طبعاً هذا جزء من أزمة العرب التاريخية التي يقال فيها الكثير. لكن ما يلفت ان زعيماً عربياً دعا إلى إرسال قوات عربية لحفظ الأمن ومنع الاقتتال في سوريا. سوريا التي تولت بالأمس القريب إرسال قوات لحفظ الأمن في لبنان، صارت دولة في وضع يشغل الآخرين أمنها.

لو تأملنا هذه المأساة العربية التي بدأت من لبنان لانتبهنا لهذا الطوفان العالمي الذي يحكم الهياكل الضعيفة الخاوية من عناصر القوة الحقيقية ولأدركنا أن تياراً كونياً جارفاً يغيّر في حياة الشعوب مهما حاول البعض التصدي له «بحفنة من نشارة الخشب». حبّذا لو أن زعيماً لبنانياً يأخذ على محمل الجد الهزل السياسي الذي تقدمه برامج التلفزة. حبذا لو أن زعيماً أو مسؤولاً عربياً يفهم أن لا هيبة له ولا قيمة معنوية بل مجرد سلطة يفرضها على الناس بات يرفضها معظم الناس ولو أكرهوا على الخضوع لها. مَن نحن على هذه الأرض وتحت هذه السماء لنحذّر من الحروب الأهلية ونمشي إليها طوعاً لأننا نريد أن نأخذ الناس إلى أفكارنا وأوهامنا بالقوة حتى لو كانت هذه طريق الجنة الموعودة. مَن نحن ومن هؤلاء المسؤولون الذين يستثمرون فقط بنزاعات البشر على قواعد تخطّاها العالم منذ قرون طويلة. وهل يكذب خوفنا من المستقبل أن يقف رأس السياسة الخارجية التركية معلناً زمن الإحياء السني بعد الإحياء الشيعي، وهو يقصد فعلاً التغلّب السياسي لا الإرث الثقافي أو الفقهي. هو يقول ذلك وعينه على «الجماهير» العربية الهائجة المائجة في بلاد العرب المستوحشة من ظلم الأرض الهاربة إلى عدالة السماء. هو يطعن في عقولنا ويقدم لنا سلعة ثقافية تركية مثلها مثل أية صناعة استهلاكية أخرى.

أما نحن فلا نكذّب خبراً ونعمل على الوصفة التي تقدمها معاهد البحث والاختبارات الأميركية التي تفحص منسوب التقدم والتأخر والانفتاح والفاشية في الإسلام كما تفحص المختبرات السكّري في الدم. أمس كان الإسلام إرهاباً وهو اليوم شريك كامل الشراكة والمؤهلات لقيم الغرب وطموحاته. رجاءً لا يحدثنا أحد عن مأساة فلسطين وعدالة قضية فلسطين لا في الشرق ولا في الغرب، لا بالعروبة ولا بالإسلام، لا بالسنة ولا بالشيعة فكم بالحري بالمسيحية التي هاجرت مهدها منذ زمن بعيد ولن تعود مشرقية من خلال حصة في السلطة هنا أو هناك. رجاء لا تدفنوا المرأة إذا مات زوجها ولا تحرقوا ما بقي من شعوب العرب باسم فلسطين، لا في قلب العروبة النابض ولا في رئة الفرس والترك والروس والصينيين. دعوا شعب فلسطين حراً فأنتم لم تعطوا شعوبكم بعد حريتها. لبنان اليوم متخلخل في كيانه، متقلقل في وجدان شعبه، مفكك في أوصال مناطقه وبيئاته الطائفية، متوجس من احتمالات الغلبة، ذاهل عن مشكلاته الحياتية والإنسانية، فَزَعُ سكانه يَكبتُ أوجاعهم. ما يستطيعه القابضون على سلطة الخوف وعلى سلطة المدافعة من أجل لبنان واللبنانيين والعرب الأقربين والأبعدين القحطانيين والعدنانيين والعاربة والمستعربين، هو تقديم فروض الطاعة لدولة عادلة تؤمن المساواة بين الناس وتنشر العدل في ما بينهم. بل تحاصر وتحارب الامتيازات كل الامتيازات وتعطي لنا «هدنة تاريخية».  

السابق
احوال الطقس: ثلوج الخميس على 1000 متر
التالي
البنك الدولي: مال الدولة سائب!