حين يبارك “حزب الله” للشعب العراقي تحرره!

مع إتمام الجيش الأميركي انسحابه من العراق، أصدر "حزب الله" بياناً يحيي فيه "انتصار الشعب العراقي المقاوم ضد الاحتلال الأميركي، وإجباره القوات الأميركية على الانسحاب ذليلة من الأراضي العراقية".

جميل أن يبارك "حزب الله" للشعب العراقي تحرره من الاحتلال الأميركي، وواجب القوى السياسية كلها أن تفعل ذلك، فقد عانى العراقيون كثيراً من ظلم الأنظمة التي حكمتهم، وصولاً إلى ظلم الاحتلال الأميركي نفسه، لا سيما بعد المشاهد المروعة في سجن أبو غريب، والتي لا تزال تعيش في ذاكرة كل حر، وتنتج الاشمئزاز والغضب. لكن؛ للأسف فإن "حزب الله" في مقاربته هذا الملف؛ وضع نفسه مرة أخرى في خانة التناقضات -التي تسيطر على مواقفه منذ مدة غير قصيرة- والأسباب كثيرة:

أولاً: لم تدخل قوات الاحتلال الأميركي إلى العراق إلا بمساعدة ودعم من مرجعية "حزب الله"، أي إيران، والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، يكفي فقط الإشارة إلى تصريح نائب رئيس الجمهورية الإيرانية محمد علي أبطحي، من دبي مطلع العام 2004: "لولا المساعدة الإيرانية، لما نجحت أمريكا في غزو العراق وأفغانستان"، وتصريحات مشابهة للرئيسين خاتمي ونجاد، والسيد هاشمي رفسنجاني من الجانب الإيراني، كما الاطلاع على مذكرات وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الصادرة العام الماضي بعنوان: "المعروف وغير المعروف" في الجانب الأميركي (فيه معلومات فظيعة عن هذا التعاون يمكن العودة إليه بدلاً من نقلها في هذه العجالة). فضلاً عن الاجتماعات العلنية، التي جرت لاحقاً (اعتباراً من 29/5/2007) بين السفيرين الإيراني والأميركي في بغداد بهدف: "تحقيق الأمن في العراق". مع التذكير بأن إيران كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالاحتلال الأميركي للعراق، ووزير خارجيتها السابق كمال خرازي كان أول وزير خارجية من دول الجوار يزور العراق تحت الاحتلال (أيار 2005)، فضلاً عن زيارة الرئيس أحمدي نجاد نفسه "المنطقة الخضراء" تحت الاحتلال الأميركي (آذار 2008).

ثانياً: عندما قررت الولايات المتحدة احتلال العراق، كان لا بد لها من غطاء عراقي، وعلى هذا الأساس لعب السفير زلماي خليل زاد (ممثل الإدارة الأمريكية) دور العراب في تنظيم مؤتمر لندن الشهير نهاية العام 2002. و"يصدف" أن أبرز رموز هذا المؤتمر هي التي دعمها "حزب الله" لاحقاً وإلى اليوم، علماً أن السيد عبد العزيز الحكيم الذي حضر المؤتمر ممثلاً شقيقة محمد باقر الحكيم (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) كان من أكثر المطالبين بغزو العراق و"إنهاء تلاعب النظام وإسقاطه بالقوة"، وقد تبناه الحزب فيما بعد مع أنه كان يجاهر -بعد عودته وشقيقه إلى العراق- بوصف المقاومة العراقية بأحط النعوت (نعى "حزب الله" محمد باقر الحكيم ببيان رسمي في العام 2003 بعد اغتياله، ونعى عبد العزيز الحكيم ببيان مشابه في العام 2009 بعد وفاته)!.

ثالثاً: بعد سقوط بغداد في 9/4/2003 أنشأ الاحتلال الأميركي "مجلس الحكم الانتقالي"، وقد كان أول رئيس لهذا المجلس هو الناطق باسم حزب "الدعوة" حينها إبراهيم الجعفري (قبل أن يشكل أول حكومة عراقية تحت الاحتلال) ولم يكن هذا المجلس إلا صيغة أميركية طائفية لتوفير الغطاء للاحتلال ومحاصرة المقاومة سياسياً، وإقرار دستور بريمير، وحل الجيش العراقي وباقي مؤسسات الدولة العراقية، وقد دشن المجلس قراراته باعتبار يوم سقوط بغداد عيداً وطنياً!، ومعلوم أن حزب "الدعوة" العراقي (الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي) يشكل أحد أهم الروافد الفكرية لـ "حزب الله" في لبنان، وكثير من قياداته الحالية مرت بهذا الحزب!.

رابعاً: بعد دخول القوات الأمريكية إلى العراق عادت الميليشيات التي آوتها ودعمتها إيران، لكن هذه الميليشيات لم تشهر سلاحها بوجه الاحتلال؛ "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" أعلن عن حل جناحه العسكري "لواء بدر" وتسليم أسلحته، بدعوى "انتفاء الحاجة إلى العمل العسكري برحيل النظام السابق"، وحزب "الدعوة" دعا إلى "التعامل السلمي مع مسألة احتلال العراق"، وفي وقت لاحق سلّم جيش المهدي أسلحته ودخل في العملية السياسية. أما رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري (يحمل الجنسية الإيرانية) فقام أثناء توليه منصب رئاسة الحكومة (2005-2006) بتكريم دونالد رامسفيلد، المتورط في فضيحة سجن أبو غريب، وأهداه سيف الإمام علي!.

خامساً: بفضل علاقة حزب "الدعوة" الوثيقة بإيران –وتالياً بـ "حزب الله"- فقد شكلت حكومة الجعفري (2005-2006) وبعده حكومة نوري المالكي (حزب الدعوة) الغطاء لـ "فرق الموت" التي قامت الميليشيات التابعة لإيران، بمساندة قوات إيرانية خاصة، بتشكيلها لاغتيال النخب العراقية، والانتقام ممن شارك في الحرب العراقية-الإيرانية، لا سيما العلماء والطيارون العراقيون (في وثيقة نشرها موقع ويكيليكس ومؤرخة بتاريخ 14/12/2009 تكشف السفارة الأمريكية في باكو أن المنظمات التابعة لإيران اخترقت فعلياً الأجهزة الأمنية كافة، وأنها أعدت قوائم اغتيال بأسماء الطيارين العراقيين الذين قادوا غارات جوية على إيران أثناء الحرب العراقية- الإيرانية، وأن إيران اغتالت منهم 180 طياراً، وأن الموساد الإسرائيلي والمخابرات الإيرانية وعملاءها في العراق، كلاً على حدة، قتلوا ما مجموعه 1000 عالم نووي وأستاذ جامعي عراقي منذ بدء الغزو الأميركي للعراق). فضلاً عن العبث بالتركيبة السكانية، حيث مُنحت الجنسية العراقية لمئات آلاف الإيرانيين، وانتُزع مئات آلاف آخرين من مناطقهم.

سادساً: بعد أن أثبتت المقاومة العراقية نفسها لاعباً قوياً على الساحة العراقية، لا سيما بعد معركتي الفلوجة الأولى والثانية عام 2004 و2005، عدّلت إيران من سياستها؛ فدعمت "القاعدة" من جهة، وأنشأت فصيلاً مسلحاً خاصاً بها – بالتنسيق مع "حزب الله"- باسم "عصائب أهل الحق" ، و"كتائب حزب الله في العراق" (عام 2007) من جهة أخرى، وقد استُعملت "عصائب أهل الحق" لنكاية القوات الأمريكية، لا سيما عند تأزم العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران (انفردت "المنار" بعرض صور عملياته). عن هذا الفصيل يقول مقتدى الصدر في بيان رسمي (27/12/2011): "جماعة عصائب أهل حق عبارة عن عشاق للكراسي ومجموعة قتلة لا دين لهم… لقد طلبت من مسؤوليهم في الجمهورية الإسلامية أن يغيروا اسم العصائب… وهم قتلوا النائب صالح العكيلي". وعن الموضوع نفسه يقول عبد الله الحافظ، المتحدث الإعلامي للجبهة الإسلامية العراقية للمقاومة "جامع": "إنها لا تعمل وفق أجندة عراقية، وأن عملياتها إما تصفية حسابات إيرانية أمريكية، وإما موجهة ضد أبناء السنة… وقد قتلت من الشعب العراقي أكثر مما قتلت من الأمريكان، هؤلاء عبارة عن شطرنج تحركهم إيران عندما يكون هنالك صراع أو خلاف بين أمريكا وإيران.. إننا نرفض سرقة ثمار المقاومة العراقية" (10/12/2011).

سابعاً: رغم أن فصائل المقاومة العراقية المختلفة، عدا "عصائب أهل الحق"، ناصبت إيران و"حزب الله" والقوى العراقية الموالية لإيران العداء، واتهمتها بقتل مقاوميها أكثر من الأمريكيين، فإن مشكلة المقاومة العراقية كانت غياب السند السياسي والعمق العربي، ما جعلها تدفع ثمن مقاومتها وتترك الحصاد لإيران (إضافة إلى أن بعض فصائل المقاومة العراقية جنحت نحو التطرف، ما قلب الحاضنة الشعبية في المناطق السنية عليها، ودفع باتجاه تشكيل "مجالس الصحوات")، علماً أن كل من سوريا وإيران تورطا في تسهيل نشاط "القاعدة" في العراق، حيث قامت "القاعدة" هناك بدورين أحدهما مقاومة الاحتلال الاميركي، والثاني هو الاقتتال الطائفي. (في حديثه إلى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قال الرئيس السوري بشار الأسد وفق ما نقلت عنه صحيفة الشرق الأوسط في 6/10/2011: تعرف أميركا كيف ساعدناها على إسقاط نظام صدام حسين لأننا كنا نريد ذلك.. وتعرف الإدارة الأميركية أن سبب ورطتها في العراق هو سوريا، وأننا نمزح معها فقط في العراق).

ثامناً: بعد أن تمكّن حلفاء "حزب الله" في إيران (حزب الدعوة)؛ مارسوا الحكم بطريقة تسلطية، وانتهجوا منهج النظام البعثي السابق في التعامل مع المخالفين، وغطوا وجود "فرق الموت" التي بالغت في قتل العراقيين بتهمة الإرهاب (المقاومة)، لا سيما بعد تفجير سامراء (22/2/2006)، ويكفي للدلالة على مدى احتقارهم حقوق الإنسان؛ استرجاع المشاهد الفظيعة التي نشرتها قناة الجزيرة في شهر نيسان من العام 2010 من أحد السجون السرية التابعة للمالكي، وهي مشاهد لا تقل بشاعة عن مشاهد سجن أبو غريب، حيث عُذب المعتقلون -وهم بالصدفة 431 معتقلاً؛ جميعهم من طائفة واحدة وتهمتهم "الإرهاب"، وقد عثر عليهم ناشطون لحقوق الإنسان بحال مذرية جداً.

للأسف؛ فإن القوى التي هزمت الجيش الأميركي هي القوى التي خاصمها "حزب الله" وما يزال، في حين أن القوى التي دعمها ليست إلا القوى التي جاءت على ظهر الدبابة الأمريكية، وحاربت المقاومة، وورثت الحكم في العراق بفضل الاحتلال الأميركي… على أي حال؛ مبارك للشعب العراقي تحرره من الاحتلال!.

السابق
اطباء لبنانيون الى ليبيا لمواكبة نقل جرحى الى لبنان
التالي
العربية: متحدث عسكري اميركي يؤكد استمرار نشر قطع بحرية في الخليج العربي